الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 357 ] باب صدقة الفطر من إضافة الحكم لشرطه والفطر لفظ إسلامي والفطرة مولد ، بل قيل لحن [ ص: 358 ] وأمر بها في السنة التي فرض فيها رمضان قبل الزكاة وكان عليه الصلاة والسلام يخطب قبل الفطر بيومين يأمر بإخراجها ذكره الشمني ( تجب ) وحديث { فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر } معناه قدر للإجماع على أن منكرها لا يكفر ( موسعا في العمر ) عند أصحابنا [ ص: 359 ] وهو الصحيح بحر عن البدائع معللا بأن الأمر بأدائها مطلق الزكاة على قول كما مر ، ولو مات فأداها وارثه جاز ( وقيل مضيقا في يوم الفطر عينا ) فبعده يكون قضاء واختاره الكمال في تحريره ورجحه في تنوير البصائر ( على كل ) حر ( مسلم ) ولو صغيرا مجنونا ، [ ص: 360 ] حتى لو لم يخرجها وليهما وجب الأداء بعد البلوغ ( ذي نصاب فاضل عن حاجته الأصلية ) كدينه وحوائج عياله ( وإن لم يتم ) كما مر ( وبه ) أي بهذا النصاب ( تحرم الصدقة ) كما مر ، وتجب الأضحية ونفقة المحارم على الراجح

التالي السابق


باب صدقة الفطر وجه مناسبتها بالزكاة أن كلا منهما من الوظائف المالية وأوردها في المبسوط بعد الصوم باعتبار ترتيب الوجود أوردها المصنف هنا رعاية لجانب الصدقة ورجحه ; لأن المقصود من الكلام المضاف لا المضاف إليه خصوصا إذا كان المضاف إليه شرطا وحقها أن تقدم على العشر ; لأنه مؤنة فيها معنى العبادة وهذه بالعكس إلا أنه ثبت بالكتاب وهي بخبر الواحد مع أنه من أنواع الزكاة ، والمراد بالفطر يومه لا الفطر اللغوي ; لأنه يكون في كل ليلة من رمضان ، وسميت صدقة وهي العطية التي يراد بها المثوبة من الله تعالى ; لأنها تظهر صدق الرجل كالصداق يظهر صدق الرجل في المرأة معراج ( قوله : من إضافة الحكم لشرطه ) المراد بالحكم وجوب الصدقة ; لأنه الحكم الشرعي فيكون على حذف مضاف ، والمراد بالوجوب وجوب الأداء ; لأنه الذي شرطه الفطر لا نفس الوجوب الذي مناطه وجود السبب وهو الرأس ح .

وفي البحر والإضافة فيها من إضافة الشيء إلى شرطه وهو مجاز ; لأن الحقيقة إضافة الحكم إلى سببه وهو الرأس ا هـ أي ; لأنها على الأول لأدنى مناسبة مثل كوكب الخرقاء وعلى الثاني بمعنى اللام الاختصاصية ( قوله : والفطر لفظ إسلامي ) اصطلح عليه الفقهاء كأنه من الفطرة بمعنى الخلقة ، كذا في البحر تبعا للزيلعي .

والظاهر أن مراده أن الفطر المضاف إليه الصدقة الذي هو اسم لليوم المخصوص لفظ شرعي أي إطلاقه على ذلك اليوم بخصوصه اصطلاح شرعي إذ لا شك أن الفطر الذي هو ضد الصوم لغوي مستعمل قبل الشرع أو مراده لفظ الفطرة بالتاء بقرينة التعليل ففي النهر عن شرح الوقاية أن لفظ الواقع في كلام الفقهاء وغيرهم مولد حتى عده بعضهم من لحن العامة . ا هـ .

أي أن الفطرة المراد بها الصدقة غير لغوية ; لأنها لم تأت بهذا المعنى وأما ما في القاموس من أن الفطرة بالكسر صدقة الفطر والخلقة فاعترضه بعض المحققين بأن الأول غير صحيح ; لأن ذلك المخرج لم يعلم إلا من الشارع وقد عد من غلط القاموس ما يقع كثيرا فيه من خلط الحقائق الشرعية باللغوية ا هـ لكن في المغرب .

وأما قوله في المختصر : الفطرة نصف صاع من بر فمعناها صدقة الفطر ، وقد جاءت في عبارات الشافعي وغيره وهي صحيحة من طريق اللغة وإن لم أجدها فيما عندي من الأصول ا هـ وفي تحرير النووي : هي اسم مولد [ ص: 358 ] ولعلها من الفطرة التي هي الخلقة قال أبو محمد الأبهر معناها زكاة الخلقة كأنها زكاة البدن . ا هـ .

وفي المصباح وقولهم : تجب الفطرة الأصل تجب زكاة الفطرة وهي البدن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه واستغنى به في الاستعمال لفهم المعنى . ا هـ . ومشى عليه القهستاني ، ولهذا نقل بعضهم أنها تسمى صدقة الرأس وزكاة البدن .

والحاصل : أن لفظ الفطرة بالتاء لا شك في لغويته ومعناه الخلقة وإنما الكلام في إطلاقه مرادا به المخرج فإن أطلق عليه بدون تقدير فهو اصطلاح شرعي مولد ، وأما مع تقدير المضاف فالمراد بها المعنى اللغوي ولعل هذا وجه الصحة الذي أراده صاحب المغرب ، وأما لفظ الفطر بدون تاء فلا كلام في أنه معنى لغوي وبهذا تعلم ما في كلام الشارح تبعا للنهر فافهم ( قوله وأمر بها ) أي بإخراجها .

وفي حاشية نوح : والحاصل أن فرض صيام رمضان في شعبان بعد ما حولت القبلة إلى الكعبة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل العيد بيومين وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال هذا هو الصحيح ولهذا قيل إنها منسوخة بالزكاة وإن كان الصحيح خلافه ا هـ ( قوله : وكان عليه الصلاة والسلام إلخ ) أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن عبد الله بن ثعلبة ، قال { خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يوم الفطر بيومين فقال أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين أو صاعا من تمر أو شعير عن كل حر أو عبد صغير أو كبير } فتح .

قال ط : وبهذا يتقوى ما بحثه صاحب البحر سابقا في باب صلاة العيدين من أنه ينبغي أن يقدم أحكام صدقة الفطر في خطبة قبل يوم العيد لأجل أن يتمكنوا من إخراجها قبل الذهاب إلى المصلى ( قوله : وحديث فرض إلخ ) جواب عما استدل به الشافعي رحمه الله على فرضيتها من حديث عمر في الصحيحين { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر أو أنثى من المسلمين } فتح ( قوله : معناه قدر إلخ ) أي فإنه أحد معاني الفرض كقوله تعالى - { فنصف ما فرضتم } - ويقال فرض القاضي النفقة وهذا الجواب ذكره في البدائع .

وأجاب في الفتح بأن الثابت بظني يفيد الوجوب وأنه لا خلاف في المعنى ; لأن الافتراض الذي يثبته الشافعية ليس على وجه يكفر جاحده فهو معنى الوجوب عندنا ، غاية الأمر أن الفرض في اصطلاحهم أعم من الواجب في عرفنا فأطلقوه على أحد جزأيه والإجماع على الوجوب لا يدل على أن المراد بالفرض ما هو عرفنا أي ما يكفر جاحده ; لأن ذاك إذا نقل الإجماع تواترا ليكون قطعيا أو كان من ضروريات الدين كالخمس لا إذا كان ظنيا ، وقد صرحوا بأن منكر وجوبها لا يكفر ، فكان المتيقن الوجوب بالمعنى العرفي عندنا ا هـ ملخصا .

قلت : وقد يجاب بأن قول الصحابي فرض يراد به المعنى المصطلح عندنا للقطع به بالنسبة إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره ما لم يصل إليه بطريق قطعي فيكون مثله ولهذا قالوا : إن الواجب لم يكن [ ص: 359 ] في عصره صلى الله عليه وسلم كما أوضحناه في حواشي شرح المنار ( قوله : وهو الصحيح ) هو ما عليه المتون بقولهم وصح لو قدم أو أخر ( قوله : مطلق ) أي عن الوقت فتجب في مطلق الوقت وإنما يتعين بتعيينه فعلا أو آخر العمر ، ففي أي وقت أدى كان مؤديا لا قاضيا كما في سائر الواجبات الموسعة غير أن المستحب قبل الخروج إلى المصلى لقوله عليه الصلاة والسلام { أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم } بدائع ( قوله : كما مر ) عند قول المتن : وافتراضها عمري إلخ ( قوله : جاز ) في الجوهرة : إذا مات من عليه زكاة أو فطرة أو كفارة أو نذر لم تؤخذ من تركته عندنا إلا أن يتبرع ورثته بذلك وهم من أهل التبرع ولم يجيزوا عليه وإن أوصى تنفذ من الثلث . ا هـ . ( قوله وقيل مضيقا ) مقابل الصحيح وهو قول الحسن بن زياد وقت أدائها يوم الفطر من أوله إلى آخره ، فإذا لم يؤدها حتى مضى اليوم سقطت كالأضحية بدائع ، ومثله في شروح الهداية وغيرها ، ورجح المحقق ابن الهمام في التحرير أنها من قبيل المقيد بالوقت لا المطلق لقوله عليه الصلاة والسلام { أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة } فبعده قضاء وتبعه العلامة ابن نجيم في بحره ، لكنه قال في شرحه على المنار أنه ترجيح لما قابل الصحيح . ا هـ .

قلت : والظاهر أن هذا قول ثالث خارج عن المذهب ; لأن وقوعها قضاء بمضي يومها غير القول بسقوطها به . وقد رده العلامة المقدسي بأنهم كانوا يعجلون في زمنه صلى الله عليه وسلم وأنه كان بإذنه وعلمه صلى الله عليه وسلم كما قاله ابن الهمام نفسه ، فدل ذلك على عدم التقييد باليوم إذ لو تقيد به لم يصح قبله كما في الصلاة وصوم رمضان والأضحية . ا هـ .

وما قيل في الجواب إنه تعجيل بعد وجود السبب فيجوز كتعجيل الزكاة بعد ملك النصاب ، فهو مؤكد للاعتراض لدلالته على جواز التعجيل وعلى عدم التوقيت إذ لو كان مؤقتا لم يجز تعجيله قبل وقته وإن وجد سببه ; لأن الوقت شرطه كما لا يجوز تعجيل الحج قبل وقته وإن وجد سببه وهو البيت ، على أن قياس تعجيل الفطرة على الزكاة لا يصح ; لأن حكم الأصل مخالف للقياس كما سنذكره عن الفتح فافهم .

والأمر في حديث أغنوهم محمول على الاستحباب كما يشير إليه ما قدمناه عن البدائع وصرح في الظهيرية بعدم كراهة التأخير أي تحريما كما في النهر وسيأتي لقوله صلى الله عليه وسلم { من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات } رواه أبو داود وغيره لنقصان ثوابها فصارت كغيرها من الصدقات كما في الفتح .

وأفاد أيضا أن هذا لا يدل على قول الحسن بن زياد بسقوطها ; لأن اعتبار ظاهره يؤدي إلى سقوطها بعد الصلاة وإن كان الأداء في باقي اليوم ، وليس هذا قوله فهو مصروف عنه عنده أي ; لأنه يقول بسقوطها بمضي اليوم لا بمضي الصلاة كما مر ( قوله : فبعده يكون قضاء ) قد علمت أن المراد بالتضييق هو قول الحسن بسقوطها بمضي اليوم كما أشار إليه في الهداية ، وصرح به شراحها وغيرهم ، وأن هذا قول ثالث لم أر من قال به سوى ابن الهمام وعلمت ما فيه ففي هذا التفريع نظر .

( قوله : على كل حر مسلم ) فلا تجب على رقيق لعدم تحقق التمليك منه ، ولا على كافر ; لأنها قربة والكفر ينافيها نهر ، ولا تجب على الكافر ولو له عبد مسلم أو ولد مسلم بحر ( قوله : ولو صغيرا مجنونا ) في بعض النسخ : أو مجنونا بالعطف بأو وفي بعضها بالواو ، وهذا لو كان لهما مال قال في البدائع .

وأما العقل والبلوغ فليسا من شرائط الوجوب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، حتى تجب على الصبي والمجنون إذا كان لهما مال [ ص: 360 ] ويخرجها الولي من مالهما وقال محمد وزفر لا تجب فيضمنها الأب والوصي لو أدياها من مالهما ا هـ وكما تجب فطرتهما تجب فطرة رقيقهما من مالهما كما في الهندية والبحر عن الظهيرية ( قوله : حتى لو لم يخرجها وليهما ) أي من مالهما .

ففي البدائع أن الصبي الغني إذا لم يخرج وليه عنه فعلى أصل أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يلزمه الأداء ; لأنه يقدر عليه بعد البلوغ . ا هـ .

قلت : فلو كانا فقيرين لم تجب عليهما بل على من يمونهما كما يأتي . والظاهر أنه لو لم يؤدها عنهما من ماله لا يلزمهما الأداء بعد البلوغ والإفاقة لعدم الوجوب عليهما ( قوله : بعد البلوغ ) أي بعد الإفاقة في المجنون ح .

( قوله : وإن لم ينم ) يقال نما ينمي وينمو كذا في الإسقاطي فهو مجزوم بحذف الياء أو الواو ط ( قوله كما مر ) أي في قوله : وغني يملك قدر نصاب وقدمنا بيانه ثمة ( قوله : تحرم الصدقة ) أي الواجبة أما النافلة فإنما يحرم عليه سؤالها ، وإذا كان النصاب المذكور مستغرقا بحاجته ، فلا تحرم عليه الصدقة ولا يجب به ما بعدها ( قوله : كما مر ) أي في قوله أيضا وغني ( قوله : ونفقة المحارم ) أي الفقراء العاجزين عن الكسب أو الإناث إذا كن فقيرات ، وقيد بهم لإخراج الأبوين الفقيرين فإن المختار أنه يدخلهما في نفقته إذا كان كسوبا




الخدمات العلمية