الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 520 ]

                                70 - باب

                                ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد

                                444 456 - حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي. وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي - وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا - فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك، فقال: "ابتاعيها فأعتقيها; فإنما الولاء لمن أعتق" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - وقال سفيان مرة: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله؟ ! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة" .

                                ورواه مالك، عن يحيى، عن عمرة، أن بريرة - ولم يذكر: "صعد المنبر".

                                قال علي: قال يحيى وعبد الوهاب، عن يحيى عن عمرة - نحوه.

                                وقال جعفر بن عون، عن يحيى: سمعت عمرة: سمعت عائشة

                                التالي السابق


                                حاصل ما ذكره من الاختلاف في إسناد هذا الحديث: أن ابن عيينة رواه عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، فوصله كله.

                                ورواه مالك في " الموطأ "، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، أن بريرة أتت عائشة - فذكر الحديث، ولم يسند متنه عن عائشة ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " اشتريها وأعتقيها ; فإنما الولاء لمن أعتق " ولم يذكر صعوده على المنبر.

                                [ ص: 521 ] وقد رواه بعضهم عن مالك ، فأسنده كله عن يحيى ، عن عمرة ، عن عائشة ، كما رواه سفيان ، وليس بمحفوظ عن مالك .

                                وذكر البخاري ، عن ابن المديني ، أن يحيى - وهو: ابن سعيد - وعبد الوهاب - وهو: الثقفي - روياه عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة - نحوه.

                                والظاهر: أنه أراد أنهما لم يذكرا عائشة في أوله كمالك .

                                وأن جعفر بن عون رواه عن يحيى بن سعيد : سمعت عمرة ، قالت: سمعت عائشة ، فصرحت بسماعها من عائشة الحديث كله، وهذا يقوي رواية ابن عيينة .

                                لكن خرجه الإمام أحمد ، عن جعفر بن عون ، ولم يذكر فيه السماع.

                                وفي حديث ابن عيينة شك منه في لفظتين:

                                إحداهما: هل قال في الحديث: "ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر"؟ أو قال: "فصعد على المنبر"؟ وهذا اختلاف قريب; لأن المعنى متقارب، غير أن رواية: "قام على المنبر" تقتضي أنه خطب بذلك قائما، وليس في مجرد صعوده ما يقتضي قيامه.

                                والثانية: شك سفيان : هل في الحديث: أن أهل بريرة قالوا لعائشة : "إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا "؟ أو قالوا: " إن شئت أعطيتها ما بقي " بدل: " أعتقتها "؟

                                وقد خرج ابن خزيمة في مصنف له مفرد في الكلام على حديث بريرة : هذا الحديث، عن عبد الجبار بن العلاء ، عن سفيان ، وقال فيه: إنهم قالوا لعائشة : " إن شئت فأعطي ما بقي، ويكون لنا الولاء ".

                                وقال: هذه اللفظة: "فأعطي ما بقي" وهم ; ثنا بهذا الخبر عبد الله بن [ ص: 522 ] محمد ، عن الزهري ، عن سفيان ، ولم يذكر هذه اللفظة، ورواه الثقفي عن يحيى ، وليس فيه هذه اللفظة.

                                قلت: قد تبين برواية البخاري ، عن ابن المديني ، عن سفيان أنه كان يتردد في هذه اللفظة، ولا يجزم بها، وقد رواه الحميدي وغيره عن سفيان ، ولم يذكروها، إنما ذكروا لفظة العتق.

                                ومقصود البخاري بتخريج الحديث في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر في مسجده، وذكر في خطبته أحكام البيع والشراء، فدل على جواز مثل ذلك في المسجد.

                                وقد روى مالك ، عن هشام ، عن أبيه، عن عائشة قصة بريرة - أيضا - وقال في حديثه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله"؟! - الحديث.

                                وقد خرجه البخاري في موضع آخر.

                                وظاهر هذا يدل على أنه خطب بذلك على المنبر.

                                وذكر البيع والشراء يقع على وجهين:

                                أحدهما: أن يكون ذكرهما على وجه الإفاضة في حديث الدنيا أو في التجارة، فهذا من مباح الكلام في غير المسجد، وقد اختلف في كراهة مثله في المسجد، فكرهه طائفة من العلماء.

                                قال أصحابنا، منهم ابن بطة وغيره: يكره الحديث فيه إلا لمصلحة في الدين.

                                [ ص: 523 ] قال أحمد في رواية حنبل : لا أرى لرجل إذا دخل المسجد إلا أن يلزم نفسه الذكر والتسبيح ; فإن المساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل.

                                وروى حماد بن سلمة في "جامعه": ثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عمر بن الخطاب سمع ناسا يذكرون تجاراتهم في المسجد والدنيا، فقال: إنما بنيت المساجد لذكر الله، فإذا أردتم أن تذكروا تجاراتكم فاخرجوا إلى البقيع .

                                وقال سعيد بن عبد العزيز : رأى أبو الدرداء رجلا يقول لصاحبه في المسجد: اشتريت وسق حطب بكذا وكذا. فقال أبو الدرداء : إن المساجد لا تعمر لهذا.

                                وقال سفيان : عن رجل، عن الحسن : يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم.

                                وكرهه أبو مسلم الخولاني وغيره من السلف.

                                وروي عن عمر أنه بنى البطحاء خارج المسجد، وقال: من أراد أن يلغط فليخرج إليها.

                                ورخص أصحاب الشافعي في التحدث بأمور الدنيا المباحة في المساجد، وإن حصل معه ضحك.

                                واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. قال: وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.

                                وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم مجالسه بكفارة المجلس، وأمر أن تختم [ ص: 524 ] المجالس به، وأخبر أنه إن كان المجلس لغوا كانت كفارة له، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، فإذا وقع اللغو في المساجد ثم ختم المجلس بكفارته، فهو شبيه بالبصاق في المسجد ودفنها بعده، كما سبق.

                                الثاني: أن يكون ذكر البيع والشراء على وجه الإخبار عن أحكامهما الشرعية، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز، فهذا من نوع تعليم العلم، وهو من أجل القرب وأفضلها مع صلاح النية فيه.

                                فإن اقترن بذلك إرادة الإنكار على من باع بيعا غير سائغ، أو شرط في بيعه شرطا غير سائغ، فقد اجتمع فيه حينئذ أمران: تعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

                                ومثل هذا إذا أعلن به على المنابر في المساجد كان أبلغ في إشهاره ونشره وظهوره وارتداع المخالفين له، وهذا كله من أفضل القرب والطاعات.

                                وحينئذ ; ففي دخول هذا الحديث في تبويب البخاري نظر، فإن كان قد أشار إلى الاستدلال بهذا الحديث على جواز البيع والشراء في المسجد فهو أبعد وأبعد.

                                وأما عقد البيع والشراء في المسجد: فقد ورد النهي عنه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه.

                                وخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا [ ص: 525 ] رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك ".

                                وقد روي عن ابن ثوبان - مرسلا، وهو أصح عند الدارقطني .

                                وحكى الترمذي في "جامعه" قولين لأهل العلم من التابعين في كراهة البيع في المسجد.

                                والكراهة قول الشافعي وأحمد وإسحاق ، وهو عند أصحابنا كراهة تحريم، وعند كثير من الفقهاء كراهة تنزيه.

                                وللشافعي قول: إنه لا يكره بالكلية، وهو قول عطاء وغيره.

                                واختلف أصحابنا في انعقاد البيع في المسجد على وجهين.

                                وفرق مالك بين اليسير والكثير، فكره الكثير دون اليسير، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة نحوه.



                                الخدمات العلمية