الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3047 - ( وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار ، فقيل : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : قد أراد قتل صاحبه } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3048 - ( وعن جندب البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع ، فأخذ سكينا فحز بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات ، قال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة } أخرجاه ) .

                                                                                                                                            3049 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل [ ص: 58 ] نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا } ) .

                                                                                                                                            3050 - وعن المقداد بن الأسود أنه قال : { يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال : لا تقتله قال فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله ؟ قال لا تقتله فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال } متفق عليهما

                                                                                                                                            3051 - وعن جابر قال { لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له ما صنع بك ربك قال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : ما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليديه فاغفر } رواه أحمد ومسلم

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( فالقاتل والمقتول في النار ) قال في الفتح : قال العلماء : معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ، ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين ، وإن شاء عفا عنهما أصلا . وقيل هو محمول على من استحل ذلك ، ولا حجة فيه للخوارج . ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم من قوله : " القاتل والمقتول في النار " استمرار بقائهما فيها . واحتج به من لم ير القتال في الفتنة وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وغيرهم ، وقالوا : يجب الكف حتى لو أراد قتله لم يدفعه عن نفسه . ومنهم من قال : لا يدخل في الفتنة فإن أحد أراد قتله دفع عن نفسه انتهى .

                                                                                                                                            ويدل على القول الآخر حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم ، وقد تقدم في باب دفع الصائل من كتاب الغصب ، وفيه " أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله " ويدل على القول الأول ما تقدم من الأحاديث في باب أن الدفع لا يلزم المصول عليه من ذلك الكتاب . قال في الفتح : وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصرة [ ص: 59 ] الحق وقتال الباغين . وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف عن القتال أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق . قال : واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد ، وقد عفا الله عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا ، وأن المصيب يؤجر أجرين .

                                                                                                                                            قال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حق ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ، ويكف المسلمون أيديهم ويقولوا : هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها ، وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء ا هـ . وقد أخرج البزار زيادة في هذا الحديث تبين المراد ، وهو { إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار } ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ : { لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل ، فقيل كيف يكون ذلك ؟ قال : الهرج ، القاتل والمقتول في النار } قال القرطبي : فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهل من طلب دنيا أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله : { القاتل والمقتول في النار } .

                                                                                                                                            قال الحافظ : ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عددا من الذين قاتلوا وكلهم متأول مأجور إن شاء الله بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا . ا هـ . وهذا يتوقف على صحة نيات جميع المقتتلين في الجمل وصفين وإرادة كل واحد منهم الدين لا الدنيا وصلاح أحوال الناس لا مجرد الملك ومناقشة بعضهم لبعض مع علم بعضهم بأنه المبطل وخصمه المحق ، ويبعد ذلك كل البعد ، ولا سيما في حق من عرف منهم الحديث الصحيح أنها : { تقتل عمارا الفئة الباغية } فإن إصراره بعد ذلك على مقاتلة من كان معه عمار معاندة للحق وتماد في الباطل كما لا يخفى على منصف ، وليس هذا منا محبة لفتح باب المثالب على بعض الصحابة ، فأنا كما علم الله من أشد الساعين في سد هذا الباب والمنفرين للخاص والعام عن الدخول فيه حتى كتبنا في ذلك رسائل وقعنا بسببها مع المتظهرين بالرفض والمحبين له بدون تظهر في أمور يطول شرحها حتى رمينا تارة بالنصب وتارة بالانحراف عن مذاهب أهل البيت وتارة بالعداوة للشيعة وجاءتنا الرسل المشتملة على العتاب من كثير من الأصحاب والسباب من جماعة من غير ذوي الألباب .

                                                                                                                                            ومن رأى ما لأهل عصرنا من الجوابات على رسالتنا التي سميناها إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي وقف على بعض أخلاق القوم وما جبلوا عليه من عداوة من سلك مسلك الإنصاف وآثر نص الدليل على مذاهب الأسلاف وعداوة الصحابة الأخيار وعدم التقييد بمذاهب الآل [ ص: 60 ] الأطهار ، فإنا قد حكينا في تلك الرسالة إجماعهم على تعظيم الصحابة رضي الله عنهم وعلى ترك السب لأحد منهم من ثلاث عشرة طريقا ، وأقمنا الحجة على من يزعم أنه من أتباع أهل البيت ، ولا يتقيد بمذاهبهم في مثل هذا الأمر الذي هو مزلة أقدام المقصرين فلم يقابل ذلك بالقبول ، والله المستعان وأقول :

                                                                                                                                            إني بليت بأهل الجهل في زمن قاموا به ورجال العلم قد قعدوا

                                                                                                                                            ومما يؤيد ما تقدم من التأويل للحديث المذكور ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة يرفعه { من قاتل تحت راية عمية فغضب لغضبه أو يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية } .

                                                                                                                                            وقد قدمنا ما هو أبسط من هذا الكلام في باب دفع الصائل ، وباب أن الدفع لا يلزم المصول عليه من كتاب الغصب فراجعه قوله : ( فقيل هذا القاتل فما بال المقتول ) القائل هو أبو بكرة كما وقع مبينا في رواية مسلم . ومعنى ذلك أن هذا القاتل قد استحق النار بذنبه وهو الإقدام على قتل صاحبه فما بال المقتول ؟ أي فما ذنبه قوله : ( قال قد أراد قتل صاحبه ) في لفظ للبخاري في كتاب الإيمان " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " . وقد استدل بذلك من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل . وأجاب من لم يقل بذلك أن في ذلك فعلا وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال ، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة ، فالقاتل يعذب على القتال والقتل والمقتول يعذب على القتال فقط ، فلم يقع التعذيب على العزم المجرد ، ويؤيد هذا حديث { إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا } .

                                                                                                                                            قال في الفتح : والحاصل أن المراتب ثلاث : الهم المجرد وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به ، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم ولا نزاع في المؤاخذة به ، والعزم وهو أقوى من الهم وفيه النزاع قوله : ( يتوجأ ) أي يضرب بها نفسه ، وحديث جندب البجلي وأبي هريرة يدلان على أن من قتل نفسه من المخلدين في النار ، فيكون عموم إخراج الموحدين مخصصا بمثل هذا وما ورد في معناه كما حققنا ذلك مرارا . وظاهر حديث جابر المذكور يخالفهما فإن الرجل الذي قطع براجمه بالمشاقص ومات من ذلك أخبر بعد موته الرجل الذي رآه في المنام بأن الله تعالى غفر له ، ووقع منه صلى الله عليه وسلم التقرير لذلك بل دعا له . ويمكن الجمع بأنه لم يرد قتل نفسه بقطع البراجم ، وإنما حمله الضجر وما حل به من المرض على ذلك بخلاف الرجل المذكور في حديث جندب فإنه قطع يده مريدا القتل نفسه ، وعلى هذا فتكون الأحاديث الواردة في تخليد من قتل نفسه في النار وتحريم الجنة عليه مقيدة بأن يكون مريدا للقتل .

                                                                                                                                            وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال : { شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل [ ص: 61 ] ممن يدعي الإسلام : هذا من أهل النار ، فلما حضر القتال قاتل قتالا شديدا فأصابه جراح ، فقيل : يا رسول الله الذي قلت آنفا إنه من أهل النار قد قاتل قتالا شديدا وقد مات ، فقال صلى الله عليه وسلم : إلى النار ، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك إذ قيل له : إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فأخذ ذباب سيفه فتحامل عليه فقتل نفسه ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالا فنادى في الناس : إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر } وأخرج أبو داود من حديث جابر بن مسلمة قال { أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه ، فقال : لا أصلي عليه } قوله : ( أرأيت إن لقيت رجلا ) في رواية البخاري " إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي فقطعها " وظاهرها أن ذلك وقع والذي في نفس الأمر بخلافه ، وإنما سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع كما في حديث الباب .

                                                                                                                                            وفي لفظ للبخاري في غزوة بدر بلفظ " أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار " الحديث قوله : ( ثم لاذ مني بشجرة ) أي التجأ إليها ، وفي رواية للبخاري " ثم لاذ بشجرة " قوله : ( فقال : أسلمت لله ) أي دخلت في الإسلام قوله : ( فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ) قال الكرماني : القتل ليس سببا لكون كل منهما بمنزلة الآخر ، لكنه عند النحاة مؤول بالإخبار : أي هو سبب لإخباري لك بذلك وعند البيانيين المراد لازمه قوله : ( وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته ) قال الخطابي : معناه أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم ، فإذا أسلم صار مصان الدم كالمسلم ، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر بحق الدين ، وليس المراد إلحاقه به في الكفر كما يقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة .

                                                                                                                                            وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ : أي أنه مثلك في صون الدم وإنك مثله في الهدر . ونقل ابن التين عن الداودي أن معناه : إنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا ، وهذا من المعاريض لأنه أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه ، وإنما أراد أن كلا منهما قاتل ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه . ونقل ابن بطال عن المهلب أن معناه أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما فأنتما في حالة واحدة من العصيان . وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم قبل أن يسلم كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك . وقيل معناه أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنك مغفور لك بشهادة بدر . ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى قوله " وأنت بمنزلته " أي في إباحة الدم ، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله ، لأن الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله .

                                                                                                                                            وتعقب بأن الكافر مباح الدم ، والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته [ ص: 62 ] في إباحة الدم . وقال القاضي عياض : معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرا والآخر معصية . واستدل بهذا الحديث على صحة إسلام من قال : أسلمت لله ولم يزد على ذلك . وقد ورد في بعض طرق الحديث { أنه قال : لا إله إلا الله } كما في صحيح مسلم قوله : ( فاجتووا المدينة ) أي استوخموها قوله : ( فأخذ مشاقص ) جمع مشقص ، وقد تقدم تفسيره في باب من اطلع في بيت قوم مغلق عليهم بغير إذنهم ، وقد تقدم أيضا في الحج قوله ( براجمه ) جمع برجمة بضم الموحدة وسكون الراء وضم الجيم

                                                                                                                                            . قال في القاموس : وهي المفصل الظاهر أو الباطن من الأصابع والإصبع الوسطى من كل طائر أو هي مفاصل الأصابع كلها أو ظهور العصب من الأصابع أو رءوس السلاميات إذا قبضت كفك نشرت وارتفعت . ا هـ . قوله : ( فشخبت ) بفتح الشين والخاء المعجمتين والباء الموحدة : أي انفجرت يداه دما قوله : ( لن نصلح منك ما أفسدت ) فيه دليل على أن من أفسد عضوا من أعضائه لم يصلح يوم القيامة بل يبقى على الصفة التي هو عليها عقوبة له




                                                                                                                                            الخدمات العلمية