الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب قضاء رمضان قال الله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة قال الشيخ أبو بكر : قد دل ما تلونا من الآية على جواز قضاء رمضان متفرقا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن قوله : فعدة من أيام أخر قد أوجب القضاء في أيام منكورة غير معينة ، وذلك يقتضي جواز قضائه متفرقا إن شاء أو متتابعا ؛ ومن شرط فيه التتابع فقد خالف ظاهر الآية من وجهين :

أحدهما : إيجاب صفة زائدة غير مذكورة في اللفظ ، وغير جائز الزيادة في النص إلا بنص مثله ، ألا ترى أنه لما أطلق الصوم في ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لم يلزمه التتابع ؛ إذ هو غير مذكور فيه ؟ والآخر : تخصيصه القضاء في أيام غير معينة ، وغير جائز تخصيص العموم إلا بدلالة .

والوجه الثاني : قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فكل ما كان أيسر عليه فقد اقتضى الظاهر جواز فعله ، وفي إيجاب التتابع نفي اليسر وإثبات العسر ، وذلك منتف بظاهر الآية .

والوجه الثالث : قوله تعالى ولتكملوا العدة يعني والله أعلم قضاء عدد الأيام التي أفطر فيها ؛ وكذلك روي عن الضحاك وعبد الله بن زيد بن أسلم .

فأخبر الله أن الذي يريده منا إكمال عدد ما أفطر ، فغير سائغ لأحد أن يشترط فيه غير هذا المعنى لما فيه من [ ص: 259 ] الزيادة في حكم الآية ، وقد بينا بطلان ذلك في مواضع . وقد اختلف السلف في ذلك ، فروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وأنس بن مالك وأبي هريرة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء قالوا : " إن شئت قضيته متفرقا وإن شئت متتابعا " .

وروى شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : " اقض رمضان متتابعا فإن فرقته أجزأك " .

وروى الحجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في قضاء رمضان قال : " لا يفرق " وجائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب ، وأنه إن فرق أجزأه ، كما رواه شريك وروي عن ابن عمر في قضاء رمضان : صمه كما أفطرته " .

وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كانوا يقولون قضاء رمضان متتابع .

وروى مالك عن حميد بن قيس المكي قال : كنت أطوف مع مجاهد فسأله رجل عن صيام من أفطر في رمضان أيتابع ؟ قلت : لا فضرب مجاهد في صدري وقال : إنها في قراءة أبي " متتابعات " . وقال عروة بن الزبير : " يتابع " . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي : " إن شاء تابع وإن شاء فرق " .

وقال مالك والثوري والحسن بن صالح : " يقضيه متتابعا أحب إلينا ، وإن فرق أجزأه " . فحصل من إجماع فقهاء الأمصار جواز قضائه متفرقا ، وقد قدمنا ذكر دلالة الآية عليه . وقد روى حماد عن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن هارون بن أم هانئ أو ابن بنت أم هانئ : أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها فضل شرابه فشربت ، ثم قالت : يا رسول الله إني كنت صائمة ، وإني كرهت أن أرد سؤرك فقال : إن كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه ، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضيه ، وإن شئت فلا تقضيه فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء يوم مكانه ولم يأمرها باستئناف الصوم إن كان ذلك منه فدل ذلك على معنيين :

أحدهما : أن التتابع غير واجب .

والثاني : أنه ليس بأفضل من التفريق ؛ لأنه لو كان أفضل منه لأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إليه وبينه لها . ومما يدل على ذلك من طريق النظر أن صوم رمضان نفسه غير متتابع ، وإنما هو في أيام متجاورة ، وليس التتابع من شرط صحته ، بدلالة أنه لو أفطر منه يوما لم يلزمه استقبال الصوم وجاز ما صام منه غير متتابع ، فإذا لم يكن أصله متتابعا فقضاؤه أحرى بأن لا يكون متتابعا ، ولو كان صوم رمضان متتابعا لكان إذا أفطر منه يوما لزمه التتابع ، ألا ترى أنه إذا أفطر يوما من الشهرين المتتابعين لزمه استئنافهما .

فإن قيل : قد أطلق الله تعالى صيام كفارة اليمين غير معقود بشرط التتابع ، وقد شرطتم ذاك فيه وزدتم في نص الكتاب . قيل له : لأنه قد ثبت أنه [ ص: 260 ] كان في حرف عبد الله " متتابعات " وروى يزيد بن هارون قال : أخبرنا ابن عون قال : سألت إبراهيم عن الصيام في كفارة اليمين فقال : كما في قراءتنا " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : كان أبي يقرؤها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

وقد بينا ذلك مستقصى في أصول الفقه فإن قيل : لما قال الله : فعدة من أيام أخر وكان الأمر عندنا جميعا على الفور وجب أن يلزمه القضاء في أول أحوال الإمكان من غير تأخير ، وذلك يقتضي تعجيل قضائه يوما بعد يوم ، وفي وجوب ذلك إلزام التتابع .

قيل له : ليس كون الأمر على الفور من لزوم التتابع في شيء ، ألا ترى أن ذلك إنما يلزم على الفور على حسب الإمكان ، وأنه لو أمكنه صوم أول يوم فصامه ثم مرض فأفطر لم يلزمه من كون الأمر على الفور التتابع ولا استئناف اليوم الذي أفطر فيه ؟ فدل ذلك على أن لزوم التتابع غير متعلق بكون الأمر بالقضاء على الفور دون المهلة ، وأن التتابع له صفة أخرى غيره والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية