الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قد دل على جواز ورود الأمر بذبح البقرة بقرة مجهولة غير معروفة ولا موصوفة ويكون المأمور مخيرا في ذبح أدنى ما يقع الاسم عليه وقد تنازع معناه الفريقان من نفاة العموم ومن مثبتيه ، واحتج به كل واحد من الفريقين لمذهبه ، فأما القائلون بالعموم فاحتجوا به من جهة وروده مطلقا فكان ذلك أمرا لازما في كل واحد من آحاد ما تناوله العموم ، وأنهم لما تعنتوا رسول الله عليه السلام في المراجعة مرة بعد أخرى شدد الله عليهم التكليف وذمهم على مراجعته بقوله : فذبحوها وما كادوا يفعلون

وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لأجزت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعبيدة وأبي العالية والحسن ومجاهد واحتج من أبى القول بالعموم بأن الله تعالى لم يعنفهم على المراجعة بدءا ، ولو كان قد لزمهم تنفيذ ذلك على ما ادعيتموه من اقتضاء عموم اللفظ لورد النكير في بدء المراجعة ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن النكير ظاهر عليهم في اللفظ من وجهين :

أحدهما : تغليظ المحنة عليهم وهذا ضرب من النكير كما قال الله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم

والثاني : قوله : وما كادوا يفعلون وهذا يدل على أنهم كانوا تاركين للأمر بدءا وأنه قد كان عليهم المسارعة إلى فعله فقد حصلت الآية على معان :

أحدها : وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله والثاني : أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير

والثالث : جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما يقع الاسم عليه منه .

والرابع : وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة ؛ إذ لم يلحقهم الذم إلا بترك الأمر المطلق من غير ذكر وعيد والخامس : جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه ؛ ذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها ؛ لأن قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة اقتضى ذبح بقرة أيها كانت وعلى أي وجه شاءوا ، وقد كانوا متمكنين من ذلك .

فلما قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي فقال : إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها ، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقيل [ ص: 42 ] لهم فافعلوا ما تؤمرون فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أي لون كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو غيرها ، فلما قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاءوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها ، فلما راجعوا نسخ ذلك أيضا وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دل أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه يوجب نسخه ؛ لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه .

ومن الناس من يحتج بهذه القصة في جواز نسخ الفرض قبل مجيء وقته ؛ لأنه قد كان معلوما أن الفرض عليهم بدءا قد كان بقرة معينة فنسخ ذلك عنهم قبل مجيء وقت الفعل وهذا غلط ؛ لأن كل فرض من ذلك قد كان وقت فعله عقيب ورود الأمر في أول أحوال الإمكان واستقر الفرض عليهم وثبت ثم نسخ قبل الفعل ، فلا دلالة فيه إذا على جواز النسخ قبل مجيء وقت الفعل ، وقد بينا ذلك في أصول الفقه .

والسادس : دلالة قوله : لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام ؛ إذ لا يعلم أنها بين البكر والفارض إلا من طريق الاجتهاد .

والسابع استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون في الباطن خلافه بقوله : مسلمة لا شية فيها يعني والله أعلم مسلمة من العيوب بريئة منها ، وذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة وإنما نعلمه من طريق الظاهر مع تجويز أن يكون بها عيب باطن .

والثامن : ما حكى الله عنهم في المراجعة الأخيرة : وإنا إن شاء الله لمهتدون لما قرنوا الخبر بمشيئة الله وفقوا لترك المراجعة بعدها ولوجود ما أمروا به ، وقد روي أنهم لو لم يقولوا " إن شاء الله " لما اهتدوا لها أبدا ولدام الشر بينهم ، وكذلك قوله : وما كادوا يفعلون فأعلمنا الله ذلك لنطلب نجاح الأمور عند الإخبار عنها في المستقبل بذكر الاستثناء الذي هو مشيئة الله ، وقد نص الله تعالى لنا في غير هذا الموضع على الأمر به في قوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ففيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته وأنه مالكه والمدبر له .

والتاسع : دلالة قوله : أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين على أن المستهزئ يستحق سمة الجهل ، لانتفاء موسى عليه السلام أن يكون من أهل الجهل بنفيه الاستهزاء عن نفسه .

[ ص: 43 ] ويدل أيضا على أن الاستهزاء بأمر الدين من كبائر الذنوب وعظائمها ، لولا ذلك لم يبلغ مأثمه النسبة إلى الجهل وذكر محمد بن مسعر أنه تقدم إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي قال : وعلي جبة صوف وكان عبيد الله كثير المزح ، قال : فقال له : أصوف نعجة جبتك أم صوف كبش ؟

فقلت له : لا تجهل أبقاك الله قال : وأنى وجدت المزاح جهلا ؟ فتلوت عليه : أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قال : فأعرض واشتغل بكلام آخر وفيه دلالة على أن موسى عليه السلام لم يكن متعبدا بقتل من ظهر منه الكفر ، وإنما كان مأمورا بالنظر بالقول ؛ لأن قولهم لنبي الله أتتخذنا هزوا كفر وهو كقولهم لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ويدل أيضا على أن كفرهم هذا لم يوجب فرقة بين نسائهم وبينهم ؛ لأنه لم يأمر بفراقهن ولا تقرير نكاح بينهم وبينهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية