الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف القراء في قوله تعالى: ( ملك يوم الدين ) فقرأ عاصم ، والكسائي : مالك يوم الدين . قال الفارسي : وكذلك قرأها قتادة ، والأعمش . قال مكي : وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف، وكذلك قرأها أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وطلحة ، والزبير ، رضي الله عنهم) .

[ ص: 75 ] وقرأ بقية السبعة ( ملك يوم الدين ) وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ: ( ملك يوم الدين ) ، هذه رواية عبد الوارث عنه. وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في "ملك" فيقرأ: "ملكي"، وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي ، وقرأ أبو حيوة "ملك" بفتح الكاف وكسر اللام، وقرأ ابن السميفع ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وأبو صالح السمان ، وأبو عبد الملك الشامي "مالك" بفتح الكاف، وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله: "إياك"، ورد الطبري على هذا وقال: إن معنى السورة قولوا: الحمد لله، وعلى ذلك يجيء "إياك"، و"اهدنا"، وذكر أيضا أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب، وبالعكس، كقول أبي كبير الهذلي :


يا ويح نفسي كان جدة خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر

وكما قال لبيد :


قامت تشكي إلي النفس مجهشة     وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

[ ص: 76 ] وكقول الله تعالى: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم وقرأ يحيى بن يعمر ، والحسن بن أبي الحسن ، وعلي بن أبي طالب : ( ملك يوم الدين ) على أنه فعل ماض، وقرأ أبو هريرة "مليك" بالياء وكسر الكاف. وقال أبو علي : "ولم يمل أحد من القراء ألف "مالك"، وذلك جائز إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض".

و "الملك والملك" بضم الميم وكسرها، وما تصرف منهما راجع كله إلى "ملك" بمعنى شد وضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى. يدلك على الأصل في "ملك" قول الشاعر:


ملكت بها كفي فأنهرت فتقها      ..................................

.

وهذا يصف طعنة فأراد "شددت" ومن ذلك قول أوس بن حجر :


فملك بالليط الذي تحت قشرها     كغرقئ بيض كنه القيض من عل

أراد "شدد"، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، و"الذي" مفعول، وليس بصفة لليط. ومن ذلك قولهم: "إملاك المرأة وإملاك فلان" إنما هو ربط النكاح، كما قالوا: عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد وربط، فالمالك للشيء شاد عليه، ضابط له، وكذلك الملك.

واحتج من قرأ "ملك" بأن لفظة "ملك" أعم من لفظة "مالك"، إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن [ ص: 77 ] تدبير الملك، وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة، وهي عندي غير لازمة؛ لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك، فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة، ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع، أو رجلا هو ملكها فقط، إنما يملك التدبير والأحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان.

وحكى أبو علي في حجة من قرأ: مالك يوم الدين أن أول من قرأ ( ملك يوم الدين ) مروان بن الحكم ، وأنه قد يدخل في الملك ما لا يدخل في الملك فيقال: مالك الدنانير والدراهم والطير والبهائم، ولا يقال: ملكها، و"مالك" في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء، وملك الحكم فيها. وقد قال الله تعالى: قل اللهم مالك الملك .

قال أبو بكر : الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ: ( ملك يوم الدين ) مروان بن الحكم ، بل القراءة بذلك أوسع، ولعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ في ذلك العصر، أو البلد ونحوه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما قرؤوا: ( ملك يوم الدين ) بغير ألف، وفيه أيضا أنهم قرؤوا مالك يوم الدين بألف.

قال أبو بكر : والاختيار عندي ( ملك يوم الدين ) ، لأن "الملك" و "الملك" يجمعهما، معنى واحد، وهو الشد والربط، كما قالوا ملكت العجين أي: شددته، إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله [ ص: 78 ] سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره، قال: والوجه لمن قرأ "مالك" أن يقول: إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به، كما يملك سائر الأيام، لكن خصصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه. قال أبو الحسن الأخفش : "يقال ملك بين الملك بضم الميم، ومالك بين الملك و الملك بفتح الميم وكسرها"، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى. وروى بعض البغداديين : "لي في هذا الوادي ملك و ملك و ملك" معنى واحد.

قال أبو علي : حكى أبو بكر بن السراج ، عن بعض من اختار القراءة بملك، أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله: رب العالمين ، فلا فائدة في قراءة من قرأ "مالك" لأنها تكرير. قال أبو علي : ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله تعالى: هو الله الخالق البارئ المصور . فالخالق يعم، وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة. وكما قال تعالى: وبالآخرة هم يوقنون بعد قوله: الذين يؤمنون بالغيب و"الغيب" يعم الآخرة وغيرها، ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها. وكما قال تعالى: الرحمن الرحيم فذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى: وكان بالمؤمنين رحيما .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأيضا فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله: "ومن قبل ربتني فضعت ربوب". وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ مالك يوم الدين .

والجر في "ملك" أو "مالك" على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، والإضافة إلى [ ص: 79 ] ( يوم الدين ) في كلتا القراءتين من "يا سارق الليلة أهل الدار"، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد، وليس هذا كإضافة قوله تعالى: وعنده علم الساعة ، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، أي أنه يعلم الساعة وحقيقتها، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج ، من أن معنى مالك يوم الدين أنه يملك مجيئه ووقوعه، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة، وليس ظرفا اتسع فيه.

قال أبو علي : ومن قرأ مالك يوم الدين ، فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه، فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره: مالك يوم الدين الأحكام. ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فنصب الشهر على أنه ظرف، والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولو كان الشهر مفعولا للزم الصوم للمسافر، لأن شهادته للشهر كشهادة المقيم، وشهد يتعدى إلى مفعول، يدل على ذلك قول الشاعر:


ويوما شهدناه سليما وعامرا      ......................................

.

و"الدين" لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء: منها "الملة". قال الله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى: وسمي حظ [ ص: 80 ] الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته "دينا" فيقال: "فلان حسن الدين"، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه في قميص عمر الذي رآه يجره، "قيل: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين . وقال علي بن أبي طالب : "محبة العلماء دين يدان به . ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى: "العادة".

فمنه قول العرب في الريح: "عادت هيف لأديانها".

ومنه قول امرئ القيس :


كدينك من أم الحويرث قبلها      ......................................

.

ومنه قول الشاعر:


......................................     أهذا دينه أبدا وديني؟

إلى غير ذلك من الشواهد، يقال: دين ودينة أي: عادة.

ومن أنحاء اللفظة الدين "سيرة الملك وملكته" ومنه قول زهير :


لئن حللت بجو في بني أسد     في دين عمرو وحالت بيننا فدك

أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله: ( ملك يوم الدين ) .

ومن أنحاء اللفظة الدين: "الجزاء"، فمن ذلك قول الفند الزماني :

[ ص: 81 ]

ولم يبق سوى العدوا     دناهم كما دانوا

أي جازيناهم.

ومنه قول كعب بن جعيل :


إذا ما رمونا رميناهم      ... ودناهم مثل ما يقرضونا

ومنه قول الآخر:


واعلم يقينا أن ملكك زائل      ... واعلم بأن كما تدين تدان

وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: ( ملك يوم الدين ) ، أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وقتادة ، وغيرهم، قال أبو علي : ويدل على ذلك قوله تعالى: اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ، و اليوم تجزون ما كنتم تعملون .

وحكى أهل اللغة: "دنته بفعله دينا" بفتح الدال، و"دينا" بكسرها: جزيته، وقيل: "الدين": المصدر، و"الدين" بكسر الاسم. وقال مجاهد : "ملك يوم الدين" أي: يوم الحساب مدينين محاسبين، وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء.

ومن أنحاء اللفظة "الدين": "الذل"، والمدين: العبد، والمدينة: الأمة، ومنه قول الأخطل :


ربت وربا في حجرها ابن مدينة     تراه على مسحاته يتركل

أي: ابن أمة، وقيل: بل أراد ابن مدينة من المدن، الميم أصلية، ونسبه إليها، كما [ ص: 82 ] يقال: ابن ماء وغيره، وهذا البيت في صفة كرمة، فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب .

ومن أنحاء اللفظة، الدين: "السياسة"، والديان "السائس"، ومنه قول ذي الأصبع :


لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب     يوما، ولا أنت دياني فتخزوني

ومن أنحاء اللفظة الدين: "الحال"، قال النضر بن شميل :

سألت أعرابيا عن شيء فقال لي: و "لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك". ومن أنحاء اللفظة، الدين: "الداء"، عن اللحياني وأنشد:


يا دين قلبك من سلمى وقد دينا

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني .

التالي السابق


الخدمات العلمية