الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب دية الجنين 3068 - ( عن أبي هريرة قال { : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها ، وفي رواية : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة : عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها } . متفق عليهما ، وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة ) .

                                                                                                                                            3069 - ( وعن المغيرة بن شعبة { عن عمر أنه استشارهم في إملاص المرأة ، فقال المغيرة : قضى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالغرة : عبد أو أمة ، فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            [ ص: 84 ] وعن المغيرة { أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط ، فقتلتها وهي حبلى فأتي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية وفي الجنين غرة ، فقال عصبتها : أندي من لا طعم ولا شرب ولا صاح ولا استهل مثل ذلك يطل ؟ فقال : سجع مثل سجع الأعراب } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، وكذلك الترمذي ولم يذكر اعتراض العصبة وجوابه ) .

                                                                                                                                            3071 - ( وعن ابن عباس { في قصة حمل بن مالك قال : فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا وماتت المرأة فقضى على العاقلة بالدية ، فقال عمها : إنها قد أسقطت يا نبي الله غلاما قد نبت شعره ، فقال أبو القاتلة : إنه كاذب إنه والله ما استهل ولا شرب فمثله يطل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أسجع الجاهلية وكهانتها أد في الصبي غرة } . رواه أبو داود والنسائي وهو دليل على أن الأب من العاقلة ) .

                                                                                                                                            حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان والحكم وصححاه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( في جنين امرأة ) الجنين بفتح الجيم بعده نونان بينهما ياء تحتية ساكنة بوزن عظيم ، وهو حمل المرأة ما دام في بطنها سمي بذلك لاستتاره ، فإن خرج حيا فهو ولد ، أو ميتا فهو سقط ، وقد يطلق عليه جنين . قال الباجي في شرح رجال الموطإ : الجنين ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد سواء كان ذكرا أم أنثى ما لم يستهل صارخا . قوله

                                                                                                                                            ( بغرة ) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء وأصلها البياض في وجه الفرس . قال الجوهري : كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا أعتق رقبة وقوله : " عبد أو أمة " تفسير للغرة ، وقد اختلف هل لفظ غرة مضاف إلى عبد أو منون قال الإسماعيلي : قرأه العامة بالإضافة وغيرهم بالتنوين . وحكى القاضي عياض الاختلاف وقال : التنوين أوجه لأنه بيان للغرة ما هي وتوجيه الإضافة أن الشيء قد يضاف إلى نفسه لكنه نادر . قال الباجي : يحتمل أن تكون " أو " شكا من الراوي في تلك الواقعة المخصوصة ، ويحتمل أن تكون للتنويع وهو الأظهر . قال في الفتح : قيل : المرفوع من الحديث قوله : " بغرة " وأما قوله : " عبد أو أمة " فشك من الراوي في المراد بها .

                                                                                                                                            وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء فلا يجزي عنده في دية الجنين الرقبة السوداء ، وذلك منه مراعاة لأصل الاشتقاق ، وقد [ ص: 85 ] شذ بذلك فإن سائر أهل العلم يقولون بالجواز . وقال مالك : الحمران أولى من السودان قال في الفتح وفي رواية ابن أبي عاصم : { ما له عبد ولا أمة ، قال : عشر من الإبل ، قالوا : ما له شيء إلا أن تعينه من صدقة بني لحيان ، فأعانه بها } وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة { وفي الجنين عبد أو أمة أو عشر من الإبل أو مائة شاة } ووقع في حديث أبي هريرة { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل } وكذا وقع عند عبد الرزاق عن حمل بن النابغة : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في المرأة وفي الجنين غرة عبد أو أمة أو فرس } وأشار البيهقي إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وهم ، وأن ذلك أدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة ، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ : { فقضى أن في الجنين غرة } قال طاوس : الفرس غرة وكذا أخرج الإسماعيلي عن عروة قال : الفرس غرة وكأنهما رأيا أن الفرس أحق بإطلاق الغرة من الآدمي . ونقل ابن المنذر والخطابي عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير : الغرة عبد أو أمة أو فرس . وتوسع داود ومن تبعه من أهل الظاهر فقالوا : يجزي كل ما وقع عليه اسم غرة

                                                                                                                                            وحكي في الفتح عن الجمهور أن أقل ما يجزي من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع لأن المعيب ليس من الخيار . واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعا به بشرط أن لا ينقص عن سبع سنين ; لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبا بنفسه فيحتاج إلى التعهد بالتربية فلا يجبر المستحق على أخذه وافقه على ذلك القاسمية . وأخذ بعضهم من لفظ الغلام المذكور في رواية أن لا يزيد على خمس عشرة ولا تزيد الجارية على عشرين . وقال ابن دقيق العيد : إنه يجزي ولو بلغ الستين وكثر منها ما لم يصل إلى سن الهرم ، ورجحه الحافظ وذهب الباقر والصادق والناصر في أحد قوليه إلى أن الغرة عشر الدية وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا : الغرة ما ذكر في الحديث . قال في الفتح : وتطلق

                                                                                                                                            الغرة على الشيء النفيس آدميا كان أم غيره ، ذكرا أم أنثى . وقيل : أطلق على الآدمي غرة لأنه أشرف الحيوان فإن محل الغرة الوجه وهو أشرف الأعضاء . قال في البحر : واشتقاقها من غرة الشيء أي خياره .

                                                                                                                                            وفي القاموس : والغرة بالضم العبد والأمة . قوله : ( ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت ) في الرواية الثانية " فقتلتها وما في بطنها " وفي رواية المغيرة المذكورة " فقتلتها وهي حبلى " وفي حديث ابن عباس المذكور : " فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا وماتت المرأة " ويجمع بين هذه الروايات بأن موت المرأة تأخر عن موت ما في بطنها فيكون قوله : فقتلتها وما في بطنها إخبارا بنفس القتل ، وسائر الروايات يدل على تأخر موت المرأة

                                                                                                                                            قوله : ( في إملاص المرأة ) وقع تفسير الإملاص في الاعتصام من البخاري : هو أن تضرب المرأة في بطنها [ ص: 86 ] فتلقي جنينها وهذا التفسير أخص من قول أهل اللغة إن الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة أي قبل حين الولادة ، هكذا نقله أبو داود في السنن عن ابن عبيد وهو كذلك في الغريب له . وقال الخليل : أملصت الناقة إذا رمت ولدها . وقال ابن القطاع : أملصت الحامل ألقت ولدها . ووقع في بعض الروايات ملاص بغير ألف كأنه اسم فعل الولد فحذف وأقيم المضاف مقامه أو اسم لتلك الولادة كالخداج . وروى الإسماعيلي عن هشام أنه قال : الملاص : الجنين . وقال صاحب البارع : الإملاص : الإسقاط

                                                                                                                                            قوله : ( فشهد محمد بن مسلمة ) زاد البخاري في رواية " فقال عمر : من يشهد معك فقام محمد بن مسلمة فشهد له " وفي رواية له أن عمر قال للمغيرة : لا نبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت ، قال : فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد معي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى به . قوله : ( فسطاط ) هو الخيمة . قوله : ( فقضى فيها على عصبة القاتلة ) في حديث أبي هريرة المذكور : " وقضى بدية المرأة على عاقلتها " وفي حديث ابن عباس المذكور أيضا : " فقضى على العاقلة بالدية " وظاهر هذه الروايات يخالف ما في الرواية الأولى من حديث أبي هريرة حيث قال : " ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة " ويمكن الجمع بأن نسبة القضاء إلى كونه على المرأة باعتبار أنها هي المحكوم عليها بالجناية في الأصل فلا ينافي ذلك الحكم على عصبتها بالدية ، والمراد بالعاقلة المذكورة هي العصبة وهم من عدا الولد وذوي الأرحام

                                                                                                                                            ووقع في رواية عند البيهقي فقال أبوها : { إنما يعقلها أبوها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الدية على العصبة } وفي حديث أبي هريرة المذكور : { فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لزوجها وبنيها وأن العقل على عصبتها } ، وسيأتي الكلام على العاقلة وضمانها لدية الخطإ في باب العاقلة وما تحمله . وقد استدل المصنف بحديث أبي هريرة المذكور على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة ، وسيأتي تكميل الكلام عليه . قوله : ( مثل ذلك يطل ) بضم أوله وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام : أي يبطل ويهدر يقال : طل القتل يطل فهو مطلول ، وروي بالباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان

                                                                                                                                            قوله : ( فقال : سجع مثل سجع الأعراب ) استدل بذلك على ذم السجع في الكلام ، ومحل الكراهة إذا كان ظاهر التكلف ، وكذا لو كان منسجما لكنه في إبطال حق أو تحقيق باطل ، فأما لو كان منسجما وهو حق أو في مباح فلا كراهة بل ربما كان في بعضه ما يستحب مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة وعلى هذا يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا عن غيره من السلف الصالح قال الحافظ : والذي يظهر لي أن الذي جاء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عن قصد إلى التسجيع وإنما جاء اتفاقا لعظم بلاغته ، وأما من بعده فقد يكون كذلك وقد يكون عن قصد وهو الغالب ، ومراتبهم في ذلك [ ص: 87 ] متفاوتة جدا .

                                                                                                                                            وفي قوله في حديث ابن عباس المذكور : " أسجع الجاهلية وكهانتها " دليل على أن المذموم من السجع إنما هو ما كان من ذلك القبيل الذي يراد به إبطال شرع أو إثبات باطل أو كان متكلفا

                                                                                                                                            وقد حكى النووي عن العلماء أن المكروه منه إنما هو ما كان كذلك لا غيره . قوله ( : حمل بن مالك ) بفتح الحاء المهملة والميم في بعض الروايات حمل بن النابغة وهو نسبة إلى جده ، وإلا فهو حمل بن مالك بن النابغة . قوله : ( فقال أبو القاتلة ) في رواية لمسلم وأبي داود " فقال حمل بن النابغة وهو زوج القاتلة " وفي رواية للبخاري " فقال ولي المرأة " وفي حديث أبي هريرة المذكور في الباب " فقال عصبتها " وفي رواية للطبراني " فقال أخوها العلاء بن مسروح " .

                                                                                                                                            وفي رواية للبيهقي من حديث أسامة بن عمير " فقال أبوها " ويجمع بين الروايات بأن كل واحد من أبيها وأخيها وزوجها قال ذلك لأنهم كلهم من عصبتها بخلاف المقتولة فإن في حديث أسامة بن عمير أن المقتولة عامرية والقاتلة هذلية ، فيبعد أن تكون عصبة إحدى المرأتين عصبة للأخرى مع اختلاف القبيلة

                                                                                                                                            وقد استدل بأحاديث الباب على أنه يجب في الجنين على قاتله الغرة إن خرج ميتا . وقد حكي في البحر الإجماع على أن المرأة إذا ضربت فخرج جنينها بعد موتها ففيها القود أو الدية ، وأما الجنين فذهبت العترة والشافعية إلى أن فيه الغرة وهو ظاهر أحاديث الباب . وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يضمن ، وأما إذا مات الجنين بقتل أمه ولم ينفصل فذهبت العترة والحنفية والشافعية إلى أنه لا شيء فيه وقال الزهري : إن سكنت حركته ففيه الغرة . ورد بأنه يجوز أن يكون غير آدمي فلا ضمان مع الشك . قال في الفتح : وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتا بسبب الجناية فلو انفصل حيا ثم مات وجب فيه القود أو الدية كاملة انتهى

                                                                                                                                            فإن أخرج الجنين رأسه ومات ولم يخرج الباقي فذهبت الحنفية والشافعية والهادوية إلى أنه فيه الغرة أيضا ، وذهب مالك إلى أنه لا يجب فيه شيء . قال ابن دقيق العيد . ويحتاج من اشترط الانفصال إلى تأويل الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه وتعقب بما في حديث ابن عباس المذكور أنها أسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا فإنه صريح في الانفصال ، وبما في حديث أبي هريرة المذكور في الباب بلفظ " سقط ميتا " وفي لفظ للبخاري " فطرحت جنينها " قيل : وهذا الحكم مختص بولد الحرة ; لأن القصة وردت في ذلك ، وما وقع في الأحاديث بلفظ إملاص المرأة ونحوه فهو وإن كان فيه عموم لكن الراوي ذكر أنه شهد واقعة مخصوصة . وقد ذهب الشافعي والهادوية وغيرهم إلى أن في جنين الأمة عشر قيمة أمه كما أن الواجب في جنين الحرة عشر ديتها .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية