الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين )

                                                                                                                                                                                                                                            فيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : "الكاف" في كذلك للتشبيه ، وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره ، والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه - عليه السلام - استقبح عبادة الأصنام ، وهو قوله : ( إني أراك وقومك في ضلال مبين ) والمعنى : ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض . وههنا دقيقة عقلية ، وهي أن نور جلال الله [ ص: 35 ] تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة ، والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب ، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى ، فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم - عليه السلام - : ( أتتخذ أصناما آلهة ) إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ؛ لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى ، فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام ، فقوله : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات ) معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلي جلال الله تعالى ، فكان قوله : ( وكذلك ) منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان ، فكان الأولى أن يقال : وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله : ( وكذلك نري ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون تقدير الآية ، وكذلك كنا نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي . والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصبا للدين الحق . فكأنه قيل : وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين ، فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب : وهو أعلى وأشرف مما تقدم ، وهو أنا نقول : إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت ، بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته . ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات ، إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية . وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين - رحمه الله تعالى - قال : سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول : سمعت إمام الحرمين يقول : معلومات الله تعالى غير متناهية ، ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضا غير متناهية ، وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضا ، وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك ؛ فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى ، فثبت أن دلالة ملك الله تعالى وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية ، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال ، فإذا لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل ، فلهذا السبب -والله أعلم- لم يقل : وكذلك أريناه ملكوت السماوات والأرض ، بل قال : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية ، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية