25 - فصل .
nindex.php?page=treesubj&link=11007_16962_8835وأخذ الجزية من أهل الكتاب وحل ذبائحهم ومناكحتهم مرتب على أديانهم لا على أنسابهم ، فلا يكشف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده ، ولا قبل النسخ والتبديل ولا بعده ، فإن الله سبحانه أقرهم بالجزية ولم يشرط ذلك ، وأباح لنا ذبائحهم وأطعمتهم ولم يشرط ذلك في حلها مع العلم بأن كثيرا منهم دخل في دينهم بعد تبديله ونسخه ، وكانت المرأة من الأنصار تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما جاء الإسلام أرادوا منع أولادهم من المقام على اليهودية وإلزامهم بالإسلام ، فأنزل الله تعالى :
[ ص: 189 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، فأمسكوا عنهم .
ومعلوم قطعا أن دخولهم في دين اليهودية كان بعد تبديله ، وبعد مجيء المسيح ولم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا ممن أقره بالجزية متى دخل آباؤه في الدين ولا من كان يأكل هو وأصحابه من ذبائحهم من
اليهود ، ولا أحد من خلفائه ألبتة .
[ ص: 190 ] [ ص: 191 ] [ ص: 192 ] وكيف يمكن العلم بهذا أو يكون شرطا في حل المناكحة والذبيحة والإقرار بالجزية ، ولا سبيل إلى العلم به إلا لمن أحاط بكل شيء علما ؟ ! وأي شيء يتعلق به من آبائه إذا كان هو على دين باطل لا يقبله الله ؟ فسواء كان آباؤه كذلك أو لم يكونوا .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من يهود اليمن وإنما دخلوا في اليهودية بعد المسيح في زمن تبع ، وأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده من
نصارى العرب ، ولم يسألوا أحدا منهم عن مبدأ دخوله في
النصرانية هل كان قبل المبعث أو بعده ، وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا ؟
[ ص: 193 ] وقد اختلف كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى في الجزية والمناكحة فقال في " المختصر " : ( وأصل ما أبني عليه أن الجزية لا تقبل من أحد دان دين كتاب ، إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان ، فلا تقبل ممن بدل يهودية بنصرانية أو نصرانية بمجوسية أو مجوسية بنصرانية أو بغير الإسلام ، وإنما أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل
محمد وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده ، فإن أقام على ما كان عليه وإلا نبذ إليه عهده وأخرج من بلاد الإسلام بماله ، وصار حربا ، ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها ) .
[ ص: 194 ] قال
المزني : قد قال في كتاب " النكاح " : ( إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال ) ، وهذا عندي أشبه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس وبالله التوفيق .
قال المنازعون له : الكلام على هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : الأصل الذي تبني عليه لا بد أن يكون معلوما ثبوته بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نصا أو استنباطا ، فأين في كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله أن
nindex.php?page=treesubj&link=8835الجزية لا تقبل ممن دان بدين إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان ؟ وأين يستنبط ذلك منهما أو من أحدهما فيكون أصلا منصوصا أو مستنبطا ؟
[ ص: 195 ] الثاني : أن سكوت القرآن والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع ، وعن الإيماء إليه والدلالة عليه ، دليل على عدم اعتباره .
الثالث : أن إطلاقهما وعمومهما المطردين في جميع المواضع متناول لكل من اتصف بتلك الصفة ، ولم يرد فيهما موضع واحد مخصص ولا مقيد ، فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه .
الرابع : أن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبين أنه المراد منهما ، وقد علم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبن في أخذ الجزية وحل الذبائح والنكاح إلا على مجرد دينهم لا على آبائهم وأنسابهم .
الخامس : أنه سبحانه قد حكم - ولا أحسن من حكمه - أنه من تولى
اليهود والنصارى فهو منهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم ، وهذا عام خص منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام ، فإنه لا يقر ولا تقبل منه الجزية بل إما الإسلام أو السيف ، فإنه مرتد بالنص والإجماع ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين .
يوضحه الوجه السادس : أن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان فقد انتقل من دينه إلى دين خير منه وإن كانا جميعا باطلين .
وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره
[ ص: 196 ] بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر .
السابع : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29434دين أهل الكتاب قد صار باطلا بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا فرق بين من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم دخول آبائه فيه ، فإن كل واحد منهما اختار دينا باطلا ، وما على الرجل من أبيه ؟ وأي شيء يتعلق به منه ؟
الثامن : أن تبعيته لأبيه منقطعة ببلوغه ، بحيث صار مستقلا بنفسه في جميع الأحكام فما بال تبعية الأب بعد البلوغ أثرت في إقراره على دين باطل قد قطع الإسلام تبعيته فيه ؟
التاسع : أن ذلك الدين قد علم بطلانه ونسخه قطعا بمجيء المسيح ، فقد أقر على دين دخل فيه آباؤه بعد نسخه وتبديله .
العاشر : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29434نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وترك دين المسيح ، كنسبة من دخل في
النصرانية بعد مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كلاهما دخل في دين باطل منسوخ .
الحادي عشر : أن آباء هذا الكتابي لو أدركوا دين الإسلام فدخلوا فيه ، وأقام هو على دينه بعد بلوغه لأقررناه ولم نتعرض له مع اعتراف آبائه ببطلان دينهم الذي كانوا عليه ، فإذا أقر على دين قد اعترف آباؤه ببطلانه فكيف لا يقر على دين دخل آباؤه فيه وهم معتقدون صحته ؟
الثاني عشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر بالجهاد كان يقر الناس على ما هم عليه ، ويدعوهم إلى الإسلام بل كانت المرأة تسلم
[ ص: 197 ] وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما ، ولم ينزل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح
الحديبية ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس
[ ص: 198 ] في الدعوة مراتب ، فإنه أمر أولا أن يقرأ باسم ربه ، ثم أمر ثانيا أن يقوم نذيرا فأمر بإنذار عشيرته وقومه ودعوتهم إلى الله تعالى ، ثم أمر بإنذار الناس والصبر والعفو والهجر لمن آذاه ثم أمر بالهجرة ، ثم أمر بقتال من قاتله ، ثم أمر بالجهاد العام ، ثم بضرب الجزية على أهل الكتاب فضربها عليهم وألحق بهم المجوس ، وكانت العرب من عباد الأوثان قد دخلوا كلهم في الدين وكان - صلى الله عليه وسلم - يقر الناس على ما هم عليه حتى يأتيه الأمر من الله بما يأخذهم به ويفعله معهم ، فلما جاءه أمره بالهجرة بادر إلى امتثاله ، ثم جاءه الأمر بالجهاد فقام به حق القيام ، ثم جاءه الأمر بالتفريق بين المؤمنات والكفار في النكاح ، ثم جاءه الأمر بصلح الكفار بتوادعهم ، ثم جاءه الأمر بأخذ الجزية منهم وإقرارهم على دينهم ولا يتعرض لهم ما لم ينقصوه شيئا مما شرط عليهم ، فلم يكن قبل الهجرة والجهاد يمنع من أراد التهود أو التنصر من أهل الأوثان ، فلما علت كلمة الإسلام وصار للمسلمين الغلبة والقهر منع من أراد منهم التهود أو التنصر بعد أن أقر بالإسلام وأمر بقتله إن لم يراجع دين الإسلام ، ولم يمنع يهوديا من نصرانية ، ولا نصرانيا من يهودية كما منع المسلم منهما .
وقد علم صلى الله عليه وسلم أن من أبناء الأنصار من دخل في
اليهودية بعد النسخ والتبديل ، كما روى
أبو داود في " سننه " عن
ابن [ ص: 199 ] عباس رضي الله عنهما قال : " كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت
بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
قال
أبو داود : المقلات التي لا يعيش لها ولد .
وهو يدل على أن من تهود وإن كان أصله غير يهودي فإنه مثلهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيا دخل في دين أهل الكتاب بل ولا يهوديا تنصر أو نصرانيا تهود أو مجوسيا دخل في التهود والتنصر ، بل جمهور الفقهاء اليوم يقرونه على ذلك كما هو مذهب
مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه ، وعنه رواية ثانية : لا يقبل منه إلا الإسلام ، وعنه رواية ثالثة : لا يقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول إن كان دينا يقر أهله عليه .
الثالث عشر : أنه لو لم يعرف له أب لكونه لقيطا أو انقطع نسبه من أبيه بكونه ولد زنا فإن ذلك لا يمنع اعتباره في دينه بنفسه ، ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ والتبديل ، لم يثبت لهذا حكم
[ ص: 200 ] دينه ولم يقر عليه لعدم أبيه حسا وشرعا ، إذ تبعيته هنا منتفية وإنما له حكم نفسه .
ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ومن تبعه : إنه يحكم بإسلامه في هذه المواضع وفيما إذا مات أبواه أو أحدهما ، وهو دون البلوغ ; لأنه إنما كان كافرا تبعا لهما وإلا فهو على الفطرة الأصلية ، فإذا لم يكن له من يتبعه على دينه كان مسلما ; لأن مقتضى الفطرة موجود والمغير لها مفقود ، فأحمد اعتبر في بقائه على دينه وجود أبويه لتتحقق التبعية ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي لم يعتبر بقاء الأبوين ولا وجودهما في كونه تبعا لهما ، فإذا كان قد أقره على الدين الباطل حيث لا تتحقق تبعية الأبوين علم أن إقراره لم يكن لأجل آبائه وهو ظاهر .
الرابع عشر : قوله : وإنما أذن الله تعالى بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده .
فيقال : إن أريد بما دانوا به قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك إنما هو قبل مبعث المسيح ، فلا تقبل من يهودي جزية إلا أن يعلم أن آباءه توارثوا اليهودية قبل مبعث المسيح فإنها بطلت بمبعثه كما بطلت هي والنصرانية وسائر الأديان بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وإن أريد به ما دانوا به قبل مبعثه وإن كان باطلا منسوخا فما الفرق بين ذلك وبين ما دانوا به بعد المبعث قبل أن تبلغهم الدعوة وتقوم عليهم الحجة ؟ فإنك إنما اعتبرت وقت مبعثه خاصة .
[ ص: 201 ] وإن أريد به ما دانوا به قبل قيام الحجة عليهم انتقض ذلك من وجهين :
أحدهما : أنك لم تعتبر ذلك وإنما اعتبرت نفس المبعث .
الثاني : أن الدين إذا كان باطلا قبل المبعث لم يكن لتمسك الآباء به أثر في إقرار الأبناء .
الخامس عشر : أنهم إذا دانوا بدين قد أقر أهله عليه بعد المبعث مع بطلانه قطعا ، فقد أقروا على دين مبدل منسوخ وأخذت منهم الجزية عليه .
السادس عشر : أن قوله : " بخلاف ما أحدثوا من الدين بعده " يشعر بأنه كان صحيحا إلى زمن المبعث فأحدثوا بعد المبعث دينا آخر غيره ، فكذلك لا يقرون عليه وهذا خلاف الواقع فإنهم كانوا قد أحدثوا وبدلوا قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث - صلى الله عليه وسلم - استمروا على ذلك الإحداث والتبديل ، وانضاف إليه إحداث آخر وتبديل آخر ، فلم يكن دينهم قبل المبعث سالما من الإحداث والتبديل بل كان كله قد انتقض إلا الشيء القليل منه .
السابع عشر : قوله : " فإن أقام على ما كان عليه ، وإلا نبذ إليه عهده " فيقال : متى سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه في أهل الذمة هذه السيرة ؟ ومتى قال هو أو أحد من خلفائه ليهودي أو نصراني : متى دخل آباؤك في الدين ؟ فإن كانوا دخلوا فيه قبل مبعثي وإلا نبذت إليك
[ ص: 202 ] العهد ! وأيضا فإن الذي كان عليه باطل قطعا سواء أدرك آباؤه حقه أو لم يدركوه ، فهو مقيم على ما كان عليه آباؤه من الباطل .
الثامن عشر : أن إقراره بين أظهر المسلمين على باطل دينه بالجزية والذل والصغار والتزام أحكام الملة وكف شره عن المسلمين ، خير وأنفع للمسلمين من أن يخرج بماله إلى بلاد الكفار المحاربين ، فيكون قوة للكفار محاربا للإسلام ممتنعا من أداء الجزية وجريان أحكام الملة عليه مع إقامته على الدين الباطل .
التاسع عشر : قوله : "
nindex.php?page=treesubj&link=11006ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها " فيقال : إذا كان العلم بكون الكتابية دخل آباؤها في الدين قبل النسخ والتبديل شرطا في حل نكاحها لم يحل نكاح امرأة من أهل الكتاب حتى يعرف أن آباءها كانوا كذلك - وهذا لا سبيل إلى العلم به إلا من جهتهم - وخبرهم لا يقبل في ذلك والمسلمون لا علم لهم بذلك ، فلا يحل نكاح امرأة كتابية أصلا وهذا خلاف نص القرآن !
ولا يقال : من لم يعلم حال أبويها جاز نكاحها ، فإن شرط الحل إذا لم يعلم ثبوته امتنع ثبوت الحل ، والصحابة رضي الله عنهم تزوجوا منهم ، ولم يسألوا عن ذلك .
وقد ألزم
المزني nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بالنكاح ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في كتاب " النكاح " : " إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال " قال
المزني : وهذا عندي أشبه ، ثم احتج بقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله
[ ص: 203 ] تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، وهذا من أحسن الاحتجاج .
ثم قال
المزني : فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس .
الوجه العشرون : أنه لو صح اشتراط ذلك الشرط لم يبح لنا ذبيحة أحد من أهل الكتاب ; لأنا لا نعلم متى دخل آباؤه في الدين ، والجهل بوجود الشرط كالعلم بانتفائه في امتناع ثبوت الحكم قبل تحققه .
وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله : " تنصرت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله
محمدا صلى الله عليه وسلم وينزل عليه الفرقان فدانت بدين أهل الكتاب ، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من
أكيدر دومة ، وهو رجل يقال من
غسان أو
كندة ، ومن أهل ذمة
اليمن وعامتهم عرب ، ومن أهل
نجران وفيهم عرب ، فدل ما وصفت على أن الجزية ليست على الأحساب وإنما هي على الأديان " ، فقد صرح رحمه الله تعالى بعدم اعتبار الأنساب في الجزية وأخبر أنها على الأديان ، ومعلوم أن هذا لا فرق بينه وبين أن يكون الآباء دانوا بالدين قبل تبديله أو لم يكونوا كذلك ، وكون الآباء قد دخلوا في الدين قبل نزول القرآن ، بعد بطلانه وتبديله ، لا أثر له ، فإنهم بين المبعث وضرب الجزية كانوا قد دخلوا في دين يقرون عليه .
ونكتة المسألة أنهم بعد المبعث وإن دخلوا في دين باطل قد دخلوا في دين يقرون عليه ، وذلك قبل الأمر بالجهاد .
[ ص: 204 ] فهذه الوجوه ونحوها وإن كانت مبطلة لهذا الأصل فإنها من أصول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى وقواعده ، فمن كلامه وكلام أمثاله من الأئمة استفدناها ، ومنه ومنهم تعلمناها ، ولم نخرج فيها عن أصوله وقواعده .
وليس المعتنون بالوجوه والطرق واختلاف المنتسبين إليه والاعتناء بعباراتهم أقرب إليه منا ولا أولى به ، بل هذه طريقته وأصوله التي أوصى بها أصحابه ، فمن وافقه في نفس أصوله أحق به ممن أعرض عنها والله المستعان .
وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=12441أبو المعالي الجويني في " نهايته " بعد أن حكى كلام بعض أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : " إن من تنصر أو تهود بعد تبديل الدينين ، وتغيير الكتابين قبل مبعث نبينا - صلى الله عليه وسلم - نظر ، فإن تمسك بالدين غير مبدل ، وحذف التبديل ، ثم أدركه الإسلام قبلت الجزية منه ، وإن دخل في الدين المبدل ثم أدركه الإسلام لم يقبل منه وإن كان ذلك قبل المبعث .
وهل يقبل من أولاده ؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدين ؟ قال : " وهذا كلام مختلط لا تعويل عليه ، والمذهب القطع بأخذ الجزية ممن تمسك بالدين المبدل قبل المبعث وأدركه الإسلام نظرا إلى
[ ص: 205 ] تغليب الحقن ، وإذا تعلق بالكتاب فليس كله مبدلا ، وغير المبدل منه ينتصب شبهة في جواز حقن دمه بالجزية ، إذ ذاك لا ينحط عن الشبهة التي تعلق بها المجوس فلا ينبغي أن يعتد بهذا بل الوجه القطع بقبول الجزية كما قدمنا ، انتهى .
وهذا الذي ذكره في غاية القوة وما ذكره من حكى كلامه مخالف للمعلوم المقطوع به من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي عليه درجة واحدة وهي القطع بأخذها ممن تهود بعد المبعث قبل الأمر بالقتال ، إذ كانوا مقرين على دينهم ، فقد دخل في دين باطل يقر أهله عليه كما تقدم .
25 - فَصْلٌ .
nindex.php?page=treesubj&link=11007_16962_8835وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحِلُّ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ مُرَتَّبٌ عَلَى أَدْيَانِهِمْ لَا عَلَى أَنْسَابِهِمْ ، فَلَا يُكْشَفُ عَنْ آبَائِهِمْ هَلْ دَخَلُوا فِي الدِّينِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَلَا قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَلَا بَعْدَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَلَمْ يَشْرُطْ ذَلِكَ ، وَأَبَاحَ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ وَأَطْعِمَتَهُمْ وَلَمْ يَشْرُطْ ذَلِكَ فِي حِلِّهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ تَبْدِيلِهِ وَنَسْخِهِ ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْذُرُ إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَرَادُوا مَنْعَ أَوْلَادِهِمْ مِنَ الْمُقَامِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَإِلْزَامَهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
[ ص: 189 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ، فَأَمْسَكُوا عَنْهُمْ .
وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ دُخُولَهُمْ فِي دِينِ الْيَهُودِيَّةِ كَانَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِ ، وَبَعْدَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ وَلَمْ يَسْأَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِمَّنْ أَقَرَّهُ بِالْجِزْيَةِ مَتَى دَخَلَ آبَاؤُهُ فِي الدِّينِ وَلَا مَنْ كَانَ يَأْكُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ مِنَ
الْيَهُودِ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ أَلْبَتَّةَ .
[ ص: 190 ] [ ص: 191 ] [ ص: 192 ] وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَذَا أَوْ يَكُونُ شَرْطًا فِي حِلِّ الْمُنَاكَحَةِ وَالذَّبِيحَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْجِزْيَةِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا لِمَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ؟ ! وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ آبَائِهِ إِذَا كَانَ هُوَ عَلَى دِينٍ بَاطِلٍ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ ؟ فَسَوَاءٌ كَانَ آبَاؤُهُ كَذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا .
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ يَهُودِ الْيَمَنِ وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ الْمَسِيحِ فِي زَمَنِ تُبَّعٍ ، وَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
نَصَارَى الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَسْأَلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ عَنْ مَبْدَأِ دُخُولِهِ فِي
النَّصْرَانِيَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهَلْ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَمْ لَا ؟
[ ص: 193 ] وَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجِزْيَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ فَقَالَ فِي " الْمُخْتَصَرِ " : ( وَأَصْلُ مَا أَبْنِي عَلَيْهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دَانَ دِينَ كِتَابٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ آبَاؤُهُ دَانُوا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ ، فَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ بَدَّلَ يَهُودِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةً بِمَجُوسِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَى مَا دَانُوا بِهِ قَبْلَ
مُحَمَّدٍ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الدِّينِ بَعْدَهُ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَإِلَّا نُبِذَ إِلَيْهِ عَهْدُهُ وَأُخْرِجَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِمَالِهِ ، وَصَارَ حَرْبًا ، وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُهَا ) .
[ ص: 194 ] قَالَ
الْمُزَنِيُّ : قَدْ قَالَ فِي كِتَابِ " النِّكَاحِ " : ( إِذَا بَدَّلَتْ بِدِينٍ يَحِلُّ نِكَاحُ أَهْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ ) ، وَهَذَا عِنْدِي أَشْبَهُ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، فَمَنْ دَانَ مِنْهُمْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
قَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُ : الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : الْأَصْلُ الَّذِي تَبْنِي عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ثُبُوتُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصًّا أَوِ اسْتِنْبَاطًا ، فَأَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=8835الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِمَّنْ دَانَ بِدِينٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ آبَاؤُهُ دَانُوا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ ؟ وَأَيْنَ يُسْتَنْبَطُ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ أَصْلًا مَنْصُوصًا أَوْ مُسْتَنْبَطًا ؟
[ ص: 195 ] الثَّانِي : أَنَّ سُكُوتَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَنِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ ، وَعَنِ الْإِيمَاءِ إِلَيْهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ إِطْلَاقَهُمَا وَعُمُومَهُمَا الْمُطَّرِدَيْنِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِمَا مَوْضِعٌ وَاحِدٌ مُخَصِّصٌ وَلَا مُقَيِّدٌ ، فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ عَمَلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَتَهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مُبَيِّنٌ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُمَا ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْنِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَحِلِّ الذَّبَائِحِ وَالنِّكَاحِ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ دِينِهِمْ لَا عَلَى آبَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ حَكَمَ - وَلَا أَحْسَنَ مِنْ حُكْمِهِ - أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّى
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَهُوَ مِنْهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، فَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْهُمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُمْ حُكْمُهُمْ ، وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ وَدَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ بَلْ إِمَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ ، فَإِنَّهُ مُرْتَدٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ قَبْلَ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ مَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ دِينِهِ إِلَى دِينٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا بَاطِلَيْنِ .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ دِينِ الْحَقِّ إِلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ
[ ص: 196 ] بِصِحَّةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبُطْلَانِ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ فَلَا يُقَرُّ .
السَّابِعُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29434دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ صَارَ بَاطِلًا بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنِ اخْتَارَهُ بِنَفْسِهِ مِمَّنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ دُخُولُ آبَائِهِ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَنْ دَخَلَ فِيهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ دُخُولُ آبَائِهِ فِيهِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اخْتَارَ دِينًا بَاطِلًا ، وَمَا عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَبِيهِ ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْهُ ؟
الثَّامِنُ : أَنَّ تَبَعِيَّتَهُ لِأَبِيهِ مُنْقَطِعَةٌ بِبُلُوغِهِ ، بِحَيْثُ صَارَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَمَا بَالُ تَبَعِيَّةِ الْأَبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَثَّرَتْ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى دِينٍ بَاطِلٍ قَدْ قَطَعَ الْإِسْلَامُ تَبَعِيَّتَهُ فِيهِ ؟
التَّاسِعُ : أَنَّ ذَلِكَ الدِّينَ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ وَنَسْخُهُ قَطْعًا بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ ، فَقَدْ أُقِرَّ عَلَى دِينٍ دَخَلَ فِيهِ آبَاؤُهُ بَعْدَ نَسْخِهِ وَتَبْدِيلِهِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29434نِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ بَعْثِ الْمَسِيحِ وَتَرَكَ دِينَ الْمَسِيحِ ، كَنِسْبَةِ مَنْ دَخَلَ فِي
النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ كِلَاهُمَا دَخَلَ فِي دِينٍ بَاطِلٍ مَنْسُوخٍ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ آبَاءَ هَذَا الْكِتَابِيِّ لَوْ أَدْرَكُوا دِينَ الْإِسْلَامِ فَدَخَلُوا فِيهِ ، وَأَقَامَ هُوَ عَلَى دِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَأَقْرَرْنَاهُ وَلَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُ مَعَ اعْتِرَافِ آبَائِهِ بِبُطْلَانِ دِينِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا أُقِرَّ عَلَى دِينٍ قَدِ اعْتَرَفَ آبَاؤُهُ بِبُطْلَانِهِ فَكَيْفَ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينٍ دَخَلَ آبَاؤُهُ فِيهِ وَهُمْ مُعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ ؟
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْجِهَادِ كَانَ يُقِرُّ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَلْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُسْلِمُ
[ ص: 197 ] وَزَوْجُهَا كَافِرٌ فَلَا يُفَرِّقُ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ إِلَّا بَعْدَ صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ النَّاسِ
[ ص: 198 ] فِي الدَّعْوَةِ مَرَاتِبَ ، فَإِنَّهُ أُمِرَ أَوَّلًا أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّهِ ، ثُمَّ أُمِرَ ثَانِيًا أَنْ يَقُومَ نَذِيرًا فَأُمِرَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ أُمِرَ بِإِنْذَارِ النَّاسِ وَالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَالْهَجْرِ لِمَنْ آذَاهُ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْجِهَادِ الْعَامِّ ، ثُمَّ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ وَأَلْحَقَ بِهِمُ الْمَجُوسَ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ قَدْ دَخَلُوا كُلُّهُمْ فِي الدِّينِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ بِمَا يَأْخُذُهُمْ بِهِ وَيَفْعَلُهُ مَعَهُمْ ، فَلَمَّا جَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْهِجْرَةِ بَادَرَ إِلَى امْتِثَالِهِ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ فَقَامَ بِهِ حَقَّ الْقِيَامِ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكُفَّارِ فِي النِّكَاحِ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْأَمْرُ بِصُلْحِ الْكُفَّارِ بِتَوَادُعِهِمْ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ مَا لَمْ يَنْقُصُوهُ شَيْئًا مِمَّا شَرَطَ عَلَيْهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ يَمْنَعُ مَنْ أَرَادَ التَّهَوُّدَ أَوِ التَّنَصُّرَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ، فَلَمَّا عَلَتْ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَصَارَ لِلْمُسْلِمِينَ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ مَنَعَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمُ التَّهَوُّدَ أَوِ التَّنَصُّرَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْ دِينَ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ يَهُودِيًّا مِنْ نَصْرَانِيَّةٍ ، وَلَا نَصْرَانِيًّا مِنْ يَهُودِيَّةٍ كَمَا مَنَعَ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا .
وَقَدْ عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ مَنْ دَخَلَ فِي
الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ، كَمَا رَوَى
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنِ
ابْنِ [ ص: 199 ] عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ
بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا : لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ .
قَالَ
أَبُو دَاوُدَ : الْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ .
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَهَوَّدَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ يَهُودِيٍّ فَإِنَّهُ مِثْلُهُمْ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْنَعْ قَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ وَلَا بَعْدَهُ وَثَنِيًّا دَخَلَ فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَلْ وَلَا يَهُودِيًّا تَنَصَّرَ أَوْ نَصْرَانِيًّا تَهَوَّدَ أَوْ مَجُوسِيًّا دَخَلَ فِي التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ ، بَلْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْيَوْمَ يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُهُ الْأَوَّلُ إِنْ كَانَ دِينًا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَبٌ لِكَوْنِهِ لَقِيطًا أَوِ انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ بِكَوْنِهِ وَلَدَ زِنًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَهُ فِي دِينِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ دُخُولُ آبَائِهِ فِي الدِّينِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ، لَمْ يَثْبُتْ لِهَذَا حُكْمُ
[ ص: 200 ] دِينِهِ وَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ لِعَدْمِ أَبِيهِ حِسًّا وَشَرْعًا ، إِذْ تَبَعِيَّتُهُ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ وَإِنَّمَا لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ .
وَلِهَذَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ تَبِعَهُ : إِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَفِيمَا إِذَا مَاتَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ دُونَ الْبُلُوغِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَافِرًا تَبَعًا لَهُمَا وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَتْبَعُهُ عَلَى دِينِهِ كَانَ مُسْلِمًا ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ مَوْجُودٌ وَالْمُغَيَّرَ لَهَا مَفْقُودٌ ، فَأَحْمَدُ اعْتَبَرَ فِي بَقَائِهِ عَلَى دِينِهِ وُجُودَ أَبَوَيْهِ لِتَتَحَقَّقَ التَّبَعِيَّةُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَعْتَبِرْ بَقَاءَ الْأَبَوَيْنِ وَلَا وُجُودَهُمَا فِي كَوْنِهِ تَبَعًا لَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّهُ عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ حَيْثُ لَا تَتَحَقَّقُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ عُلِمَ أَنَّ إِقْرَارَهُ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَى مَا دَانُوا بِهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الدِّينِ بَعْدَهُ .
فَيُقَالُ : إِنْ أُرِيدَ بِمَا دَانُوا بِهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْ يَهُودِيٍّ جِزْيَةٌ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ آبَاءَهُ تَوَارَثُوا الْيَهُودِيَّةَ قَبْلَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ فَإِنَّهَا بَطَلَتْ بِمَبْعَثِهِ كَمَا بَطَلَتْ هِيَ وَالنَّصْرَانِيَّةُ وَسَائِرُ الْأَدْيَانِ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا دَانُوا بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مَنْسُوخًا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا دَانُوا بِهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمُ الدَّعْوَةُ وَتَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ؟ فَإِنَّكَ إِنَّمَا اعْتَبَرْتَ وَقْتَ مَبْعَثِهِ خَاصَّةً .
[ ص: 201 ] وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا دَانُوا بِهِ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمُ انْتَقَضَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّكَ لَمْ تَعْتَبِرْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْتَ نَفْسَ الْمَبْعَثِ .
الثَّانِي : أَنَّ الدِّينَ إِذَا كَانَ بَاطِلًا قَبْلَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَكُنْ لِتَمَسُّكِ الْآبَاءِ بِهِ أَثَرٌ فِي إِقْرَارِ الْأَبْنَاءِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ إِذَا دَانُوا بِدِينٍ قَدْ أُقِرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ مَعَ بُطْلَانِهِ قَطْعًا ، فَقَدْ أُقِرُّوا عَلَى دِينٍ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ وَأُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّ قَوْلَهُ : " بِخِلَافِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الدِّينِ بَعْدَهُ " يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا إِلَى زَمَنِ الْمَبْعَثِ فَأَحْدَثُوا بَعْدَ الْمَبْعَثِ دِينًا آخَرَ غَيْرَهُ ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ وَهَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَحْدَثُوا وَبَدَّلُوا قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ الْإِحْدَاثِ وَالتَّبْدِيلِ ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ إِحْدَاثٌ آخَرُ وَتَبْدِيلٌ آخَرُ ، فَلَمْ يَكُنْ دِينُهُمْ قَبْلَ الْمَبْعَثِ سَالِمًا مِنَ الْإِحْدَاثِ وَالتَّبْدِيلِ بَلْ كَانَ كُلُّهُ قَدِ انْتَقَضَ إِلَّا الشَّيْءَ الْقَلِيلَ مِنْهُ .
السَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : " فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا نُبِذَ إِلَيْهِ عَهْدُهُ " فَيُقَالُ : مَتَى سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ هَذِهِ السِّيرَةَ ؟ وَمَتَى قَالَ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ لِيَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ : مَتَى دَخَلَ آبَاؤُكَ فِي الدِّينِ ؟ فَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ مَبْعَثِي وَإِلَّا نَبَذْتُ إِلَيْكَ
[ ص: 202 ] الْعَهْدَ ! وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ قَطْعًا سَوَاءٌ أَدْرَكَ آبَاؤُهُ حَقَّهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكُوهُ ، فَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُ مِنَ الْبَاطِلِ .
الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّ إِقْرَارَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَاطِلِ دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ وَكَفِّ شَرِّهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ، خَيْرٌ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ بِمَالِهِ إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ ، فَيَكُونَ قُوَّةً لِلْكُفَّارِ مُحَارِبًا لِلْإِسْلَامِ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ عَلَيْهِ مَعَ إِقَامَتِهِ عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ .
التَّاسِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : "
nindex.php?page=treesubj&link=11006وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُهَا " فَيُقَالُ : إِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْكِتَابِيَّةِ دَخَلَ آبَاؤُهَا فِي الدِّينِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ شَرْطًا فِي حِلِّ نِكَاحِهَا لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ آبَاءَهَا كَانُوا كَذَلِكَ - وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ - وَخَبَرُهُمْ لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ ، فَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ امْرَأَةٍ كِتَابِيَّةٍ أَصْلًا وَهَذَا خِلَافُ نَصِّ الْقُرْآنِ !
وَلَا يُقَالُ : مَنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُ أَبَوَيْهَا جَازَ نِكَاحُهَا ، فَإِنَّ شَرْطَ الْحِلِّ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحِلِّ ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَزَوَّجُوا مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَلْزَمَ
الْمُزَنِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيَّ بِالنِّكَاحِ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " النِّكَاحِ " : " إِذَا بَدَّلَتْ بِدِينٍ يَحِلُّ نِكَاحُ أَهْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ " قَالَ
الْمُزَنِيُّ : وَهَذَا عِنْدِي أَشْبَهُ ، ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
[ ص: 203 ] تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاحْتِجَاجِ .
ثُمَّ قَالَ
الْمُزَنِيُّ : فَمَنْ دَانَ مِنْهُمْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ .
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ الشَّرْطِ لَمْ يُبَحْ لَنَا ذَبِيحَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَتَى دَخَلَ آبَاؤُهُ فِي الدِّينِ ، وَالْجَهْلُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ كَالْعِلْمِ بِانْتِفَائِهِ فِي امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ .
وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " تَنَصَّرَتْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ الْفُرْقَانَ فَدَانَتْ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجِزْيَةَ مِنْ
أُكَيْدِرِ دُومَةَ ، وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ مِنْ
غَسَّانَ أَوْ
كِنْدَةَ ، وَمِنْ أَهْلِ ذِمَّةِ
الْيَمَنِ وَعَامَّتُهُمْ عَرَبٌ ، وَمِنْ أَهْلِ
نَجْرَانَ وَفِيهِمْ عَرَبٌ ، فَدَلَّ مَا وَصَفْتُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْأَحْسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَدْيَانِ " ، فَقَدْ صَرَّحَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَنْسَابِ فِي الْجِزْيَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا عَلَى الْأَدْيَانِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْآبَاءُ دَانُوا بِالدِّينِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ ، وَكَوْنُ الْآبَاءِ قَدْ دَخَلُوا فِي الدِّينِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ، بَعْدَ بُطْلَانِهِ وَتَبْدِيلِهِ ، لَا أَثَرَ لَهُ ، فَإِنَّهُمْ بَيْنَ الْمَبْعَثِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي دِينٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْمَبْعَثِ وَإِنْ دَخَلُوا فِي دِينٍ بَاطِلٍ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ .
[ ص: 204 ] فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَنَحْوُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبْطِلَةً لِهَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهَا مِنْ أُصُولِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوَاعِدِهِ ، فَمِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ اسْتَفَدْنَاهَا ، وَمِنْهُ وَمِنْهُمْ تَعَلَّمْنَاهَا ، وَلَمْ نَخْرُجْ فِيهَا عَنْ أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ .
وَلَيْسَ الْمُعْتَنُونَ بِالْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ وَاخْتِلَافِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِعِبَارَاتِهِمْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَوْلَى بِهِ ، بَلْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ وَأُصُولُهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا أَصْحَابُهُ ، فَمَنْ وَافَقَهُ فِي نَفْسِ أُصُولِهِ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12441أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي " نِهَايَتِهِ " بَعْدَ أَنْ حَكَى كَلَامَ بَعْضِ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ : " إِنَّ مَنْ تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ بَعْدَ تَبْدِيلِ الدِّينَيْنِ ، وَتَغْيِيرِ الْكِتَابَيْنِ قَبْلَ مَبْعَثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُظِرَ ، فَإِنْ تَمَسَّكَ بِالدِّينِ غَيْرَ مُبَدِّلٍ ، وَحَذَفَ التَّبْدِيلَ ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ قُبِلَتِ الْجِزْيَةُ مِنْهُ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ الْمُبَدَّلِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ .
وَهَلْ يُقْبَلُ مِنْ أَوْلَادِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ هَلْ تُؤْخَذُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ ؟ قَالَ : " وَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَلِطٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِالدِّينِ الْمُبَدَّلِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَأَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ نَظَرًا إِلَى
[ ص: 205 ] تَغْلِيبِ الْحَقْنِ ، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِالْكِتَابِ فَلَيْسَ كُلُّهُ مُبْدَلًا ، وَغَيْرُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ يَنْتَصِبُ شُبْهَةً فِي جَوَازِ حَقْنِ دَمِهِ بِالْجِزْيَةِ ، إِذْ ذَاكَ لَا يَنْحَطُّ عَنِ الشُّبْهَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْمَجُوسُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَدَّ بِهَذَا بَلِ الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا ، انْتَهَى .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ مَنْ حَكَى كَلَامَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْلُومِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَ عَلَيْهِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقَطْعُ بِأَخْذِهَا مِمَّنْ تَهَوَّدَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ، إِذْ كَانُوا مُقَرِّينَ عَلَى دِينِهِمْ ، فَقَدْ دَخَلَ فِي دِينٍ بَاطِلٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .