الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 234 ] قوله عز وجل:

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين

اختلف المتأولون في المراد بـ الذين آمنوا في هذه الآية، فقال سفيان الثوري : هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: إن الذين آمنوا في ظاهر أمرهم، وقرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله: من آمن -في المؤمنين المذكورين- من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة من دخل في الإيمان. وقالت فرقة: الذين آمنوا هم المؤمنون حقا بمحمد صلى الله عليه، وقوله: من آمن بالله يكون فيهم، بمعنى: من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال السدي : هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، وورقة بن [ ص: 235 ] نوفل ، والذين هادوا كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام ، "والنصارى" كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، "والصابئين" كذلك، وقيل: إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، وذكر له الطبري قصة طويلة، وحكاها أيضا ابن إسحاق ، مقتضاها: أنه صحب عبادا من النصارى فقال له آخرهم: إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.

وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 236 ] والذين هادوا هم اليهود ، وسموا بذلك لقولهم: إنا هدنا إليك أي: تبنا، فاسمهم على هذا من هاد، يهود.

وقال الشاعر:


إني امرؤ من مدحتي هائد

أي تائب، وقيل: نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ، فلما عرب الاسم لحقه التغيير كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها، وحكى الزهراوي : أن التهويد النطق في سكون ووقار ولين، وأنشد:


وخود من اللائي تسمعن بالضحى     قريض الردافى بالغناء المهود


قال: ومن هذا سميت اليهود . وقرأ أبو السمال "هادوا" بفتح الدال.

"والنصارى" لفظة مشتقة من النصر، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة، ويقال: نصريا، ويقال: نصرتا، وإما لأنهم تناصروا، وإما لقول عيسى عليه السلام : من أنصاري إلى الله : قال سيبويه : واحدهم نصران، ونصرانة كندمان وندمانة وندامى، وأنشد:


فكلتاهما خرت وأسجد رأسها     كما سجدت نصرانة لم تحنف


وأنشد الطبري :


يظل إذا دار العشي محنفا     ويضحي لديها وهو نصران شامس


[ ص: 237 ] قال سيبويه : إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء نسب، قال الخليل : واحد النصارى نصري كمهري ومهارى.

والصابئ في اللغة" من خرج من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم: قد صبأ، وقيل: إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة، تشبيها بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم: "لا إله إلا الله". وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت، قال أبو علي : يقال: صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابئ التارك لدينه الذي شرع له، إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه ومنتقل إلى سواها، وبالهمز قرأ القراء غير نافع، فإنه لم يهمزه، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال، أو يجعله على قلب الهمزة ياء، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر.

وأما المشار إليهم في قوله تعالى: "والصابئين" فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم، ليسوا بيهود ولا نصارى، وقال ابن أبي نجيح : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية لا تؤكل ذبائحهم، وقال ابن زيد : هم قوم يقولون: "لا إله إلا الله"، وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة الموصل ، وقال الحسن بن أبي الحسن ، وقتادة : هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس، ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة.

و"من" في قوله: من آمن بالله في موضع نصب بدل من "الذين" والفاء في [ ص: 238 ] قوله: "فلهم" داخلة بسبب الإبهام الذي في "من"، و ( لهم أجرهم ) ابتداء وخبر، في موضع خبر "إن"، ويحتمل ويحسن أن تكون "من" في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والفاء في قوله "فلهم" موطئة أن تكون الجملة جوابها، و ( لهم أجرهم ) خبر "من"، والجملة كلها خبر "إن"، والعائد على "الذين" محذوف لا بد من تقديره وتقديره: من آمن منهم بالله . وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم -لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى. وجمع الضمير في قوله تعالى: ( لهم أجرهم ) ، بعد أن وحد في من آمن لأن "من" تقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يخرج ما بعدها مفردا على لفظها، أو مثنى أو مجموعا على معناه، كما قال عز وجل: ومنهم من يستمعون إليك ، فجمع على المعنى، وكقوله: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ثم قال: خالدين فيها ، فجمع على المعنى. وقال الفرزدق :


تعال فإن عاهدتني لا تخونني     نكن مثل من يا ذئب يصطحبان


فثنى على المعنى. وإذا جرى ما بعد من على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام. وقرأ الحسن : "ولا خوف" نصب على التبرئة، وأما الرفع فعلى الابتداء، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية.

وقوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ، "إذ" معطوفة على التي قبلها، والميثاق مفعال من وثق يثق مثل ميزان من وزن يزن. / و"الطور" اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه، [ ص: 239 ] قاله ابن عباس ، وقال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وغيرهم: "الطور" اسم لكل جبل، ويستدل على ذلك بقول العجاج :


دانى جناحيه من الطور فمر     تقضي البازي إذا البازي كسر


وقال ابن عباس أيضا: الطور كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت فليس بطور.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله على أن اللفظة عربية، وقال أبو العالية ومجاهد : هي سريانية، اسم لكل جبل.

وقصص هذه الآية: أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم وأضرم نارا بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها وإلا سقط عليكمالجبل ، وغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي لا يصح سواه، أن الله تعالى اخترع -وقت سجودهم- الإيمان في قلوبهم لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة، وقد [ ص: 240 ] اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين.

وقوله تعالى: خذوا ما آتيناكم بقوة في الكلام حذف تقديره: وقلنا: خذوا. و"آتيناكم" معناه: أعطيناكم، و"بقوة"، قال ابن عباس معناه: بجد واجتهاد، وقيل: بكثرة درس، وقال ابن زيد : معناه بتصديق وتحقيق. وقال الربيع : معناه بطاعة الله. واذكروا ما فيه ، أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ولا تنسوه وتضيعوه. والضمير عائد على ما آتيناكم ، ويعني التوراة، وتقدير صلة "ما" واذكروا ما استقر فيه، و لعلكم تتقون ، ترج في حق البشر.

وقوله تعالى: ثم توليتم من بعد ذلك الآية، تولى تفعل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا.

و فضل الله رفع بالابتداء والخبر مضمر عند سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه، تقديره: فلولا فضل الله عليكم تدارككم، "ورحمته" عطف على "فضل". قال قتادة فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن المخاطب بقوله "عليكم" لفظا ومعنى من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف، و"لكنتم" جواب "لولا"، و من الخاسرين خبر "كان"، والخسران، النقصان.

وتوليهم من بعد ذلك: إما بالمعاصي، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون توليهم بالكفر، فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك; ليكون من ذريتهم من يؤمن، أو يكون المراد من لحق محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك قوم، وعليه يتجه قول قتادة : [ ص: 241 ] إن الفضل الإسلام، والرحمة القرآن، ويتجه أيضا أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية