الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ) [ ص: 106 ] الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار . وقال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال . وقال الزمخشري : و " لما " نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجر بإضافة " لما " إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . وأنى هذا نصب ! لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع . ( فإن قلت ) : علام عطفت الواو هذه الجملة ؟ ( قلت ) : على ما مضى من قصة أحد من قوله : ( ولقد صدقكم الله وعده ) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ؟ . انتهى .

أما العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " . ففيه بعد ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن . وأما العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه . وأما على مذهب الجمهور : سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها . وأما قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا - فجعل لما بمعنى حين ، فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي . زعم أن لما ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جر بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جوابا لها في نحو : لما جاء زيد جاء عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء ، من قولك : جاء عمرو . وأما مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح . وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى بالتكميل .

والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال . وإسناد الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال . وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ؛ لأنهم فدوا ، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام . هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولا يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد . وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة ؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول ؛ لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على [ ص: 107 ] طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين بإدالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية . وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية . وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد .

وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم . قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة ؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك . وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ؛ لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب . وقال الزمخشري : أنى هذا : من أين هذا ، كقوله : " أنى لك هذا " ؛ لقوله : " من عند أنفسكم " وقوله : " من عند الله " . انتهى كلامه . والظرف إذا وقع خبرا للمبتدأ لا يقدر داخلا عليه حرف جر غير " في " ، أما أن يقدر داخلا عليه " من " ، فلا ؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط " في " . وكذلك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة " في " إلا أن يتسع في الفعل فينصب نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري أنى هذا : من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : " من عند أنفسكم " ، وقوله : " من عند الله " ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها . وأما على ما قررناه ، فإن الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ . وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ . والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : " من عند أنفسكم " يتضمن تعيين الكيفية ؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيع .

( قل هو من عند أنفسكم ) : الإضمار في " هو " راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ . وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط ؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين ؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم . فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه عمر بن الخطاب ، وعلي ، والحسن ، وروى علي في ذلك أنه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا محمد ، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس ، فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره " . فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا . وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة . وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين . وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص ، فقال : المعنى أنتم السبب فيما [ ص: 108 ] أصابكم ؛ لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز . وعن علي : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم . انتهى . ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفا بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم . والظاهر في قوله : " أنى هذا " هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب .

وذكر الرازي أن الله لما حكى عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنى هذا . فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم . انتهى كلامه . ودل على أن قوله : " أنى هذا " من كلام المنافقين . وقال الماتريدي أيضا : إنه من كلام المنافقين . والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : " أولما أصابتكم مصيبة " ؛ لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ؛ لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ، ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : " أصابتكم مصيبة " بمعنى أصابت أقرباءكم وإخوانكم ، فهو يمكن على بعد .

( إن الله على كل شيء قدير ) : أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى . ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ؛ لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال .

التالي السابق


الخدمات العلمية