الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ ورود الأمر مقيدا بمرة أو بتكرار ] الأمر إن ورد مقيدا بمرة أو بتكرار حمل عليه قطعا ، وإن ورد مقيدا بصفة أو شرط فسيأتي ، وإن ورد مطلقا عاريا عن القيود فاختلفوا في اقتضائه التكرار وعدمه وسواء قلنا : إنه للوجوب ، أو الطلب على مذاهب : [ ص: 312 ] أحدها : أنه لا يدل بذاته لا على التكرار ولا على المرة ، وإنما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة ثم لا يمكن إدخال الماهية في الوجود بأقل من مرة ، فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به إلا أن الأمر لا يدل عليها بذاته بل بطريق الالتزام . وقال الخطابي في المعالم " : إنه قول أكثر الناس ، وقال ابن السمعاني : وهو قول أكثر أصحابنا ، وقال إلكيا الطبري : إنه الصحيح ، وهو رأي القاضي على تولعه بالوقف في أصل صيغة الأمر والعموم ، واختاره الإمام فخر الدين والآمدي وأتباعهما ، ونقله في المعتمد " عن الأكثرين . وقال صاحب اللباب " من الحنفية والباجي من المالكية : هو قول عامة أصحابنا ، وحكى ابن السمعاني خلافا عن القائلين بأنه لا يفيد التكرار منهم من قال : لا يحتمله أصلا ، ومنهم من قال : يحتمله . قال : وهو الأولى ، وهو ظاهر كلام الإمام في البرهان " فإنه قال : إنه في الزائد على المرة متوقف لا ننفيه ولا نثبته وقال أبو زيد الدبوسي : الصحيح : أنه لا يقتضي التكرار ، ولا يحتمله ولكن يحتمل كل الفعل المأمور به ويقتضيه ، غير أن الكل لا يثبت إلا بدليل ، وعليه دلت مسائل علمائنا ، وكذا قال شمس الأئمة السرخسي . والثاني : أنه للتكرار المستوعب لزمان العمر إجراء له مجرى النهي إلا أن يدل دليل على أنه أريد مرة واحدة ، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق ، ونقله الشيخ أبو إسحاق عن شيخه أبي حاتم القزويني وعن القاضي أبي بكر .

                                                      [ ص: 313 ] وذكر الأصفهاني أن العالمي نقله عن أكثر الشافعية ، وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن المزني ، ونقله في المنخول " عن أبي حنيفة والمعتزلة ، ونقله الباجي عن ابن خويز منداد ، وحكاه ابن القصار عن مالك ، وحكاه أبو الخطاب الحنبلي عن شيخهم . لكن شرط هذا القول الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة واليوم وضروريات الإنسان ، كما صرح به أبو الحسين بن القطان ، والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين وابن الصباغ والآمدي وغيرهم . قال الصفي الهندي : ثم لا يخفى عليك أنه ليس المراد من التكرار هنا معناه الحقيقي ، وهو إعادة الفعل الأول فإن ذلك غير ممكن من المكلف ، وإنما المراد تحصيل مثل الفعل الأول . واعلم أن بعضهم يعبر عن التكرار بالعموم ; لأن أوامر الشرع مما يستلزم فيه العموم التكرار إن قلنا : إن العام في الأشخاص عام في الأحوال ، والأزمنة .

                                                      والثالث : أنه نص في المرة الواحدة فقط ، ولا يحتمل التكرار ، وإنما يحمل عليه بدليل ، وحكاه في التلخيص " عن الأكثرين والجماهير من الفقهاء ، وقال ابن فورك : إنه المذهب . قال أبو الحسين بن القطان : وهو مذهب الشافعي وأصحابه ، وحذا قال الغزالي في المنخول " ، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في أصول الفقه : إنه هو الذي يدل عليه كلام الشافعي في الفروع قال : لأنه قال في الطلاق : إذا قال لزوجته : إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق إلا طلقة واحدة بالدخول إلى الدار ; [ ص: 314 ] لأن إطلاق ذلك اقتضى مرة واحدة : قال : وعليه أكثر الأصحاب ، وهو الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء . قلت : بل نص عليه في الرسالة " صريحا في باب الفرائض المنسوبة إلى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم معها . قال : فكان ظاهر قوله : { فاغسلوا وجوهكم } أقل ما يقع عليه اسم الغسل مرة ، واحتمل أكثر ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة فوافق ظاهر القرآن ، ولو لم يرد الحديث به لاستغني عنه بظاهر القرآن . انتهى . وممن اختاره ابن الصباغ في العدة " ، ونقله الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي وابن برهان في الأوسط " عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وأكثر " الفقهاء ، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن اختيار شيخه القاضي أبي الطيب ، ونقله القاضي عبد الوهاب عن أصحاب مالك ، ونقله صاحب المصادر " عن شيوخ المعتزلة وأبي الحسن الكرخي ، وقال : ظاهر قول الشافعي يدل عليه . قيل : وأكثر النقلة لا يفرقون بين هذا والقول الأول وليس غرضهم إلا نفي التكرار ، والخروج عن العهدة بالمرة ، ولذلك لم يحك أحد المذهب المختار مع حكاية هذا ، وإنما هو خلاف في العبارة . قلت : بينهما فرق من جهة أن دلالته على المرة هل هي بطريق المطابقة والالتزام ؟ وإن عدم دلالته على التكرار هل هي لعدم احتمال اللفظ له أصلا أو لأنه يحتمله ولكن لما لم يتعين توقف فيه ؟ .

                                                      [ ص: 315 ] والرابع : أنه يدل على المرة الواحدة قطعا ، ولا ينبئ عن نفي ما عداها ، ولكن يتردد الأمر في الزائد على المرة الواحدة ، وهو الذي ارتضاه القاضي ، كما نقله إمام الحرمين في التلخيص " . قال : والفرق بين هذا والذي قبله : أن الأولين قطعوا بأن الأمر يحمل على المرة الواحدة ، ولا يحتمل معنى غيرها ، فافهم الفصل بين هذه المذاهب . قال الصفي الهندي : القائلون باقتضائه للمرة الواحدة اختلفوا ، فمنهم من قال : يقتضيها لفظا ، ومنهم من نفى ذلك ، وزعم أن اقتضاءه لها إنما هو بحسب الدلالة المعنوية ، وهي أنه لا يفيد إلا الطلب بتحصيل الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة ، لكن لما لم يمكن تحصيلها بدون المرة الواحدة قلنا : دل عليها الأمر ضرورة ، بخلاف الكثرة فإنها لا تدل عليها لفظا ولا معنى .

                                                      قال : وهذا اختيار أبي الحسين البصري والإمام فخر الدين ومنهم من قال : إن مقتضى الصيغة الامتثال ، والمرة الواحدة لا بد منها ، وأما الزائد عليها فيتوقف فيه ، وهو اختيار إمام الحرمين وإليه ميل الغزالي . انتهى . وهذا الأخير حكاه صاحب المصادر " عن الشريف المرتضى ، وقال : إنه الصحيح ، والذي في البرهان " للإمام أنه يتضمن الامتثال بالمرة وهو في الزيادة عليها على الوقف بتوقف على القرينة ، وهو يرد نقل الآمدي عنه الثالث فاعلمه . والخامس الوقف في الكل ، وهو رأي القاضي أبي بكر وجماعة [ ص: 316 ] الواقفية بمعنى أنه يحتمل المرة ويحتمل لعدد محصور زائد على المرة والمرتين ، ويحتمل التكرار في جميع الأوقات كذا صرح به في التقريب ثم ادعى قيام الإجماع على انتفاء ما عدا التكرار والمرة بالحصر ، وتوقف حينئذ بالمرة والتكرار ، ثم ادعى الاتفاق على أن فعل المرة متفق عليه ، وهو واضح ، ثم قال تفريعا على القول بعدم الوقف : إن المفهوم فعل مرة واحدة .

                                                      هذا تحقيق مذهب القاضي ، ونقل بعضهم قول الوقف ، وقال : هو محتمل لشيئين : أن يكون مشتركا بين التكرار والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على قرينة ، والثاني : أنه لأحدهما ، ولا نعرفه فيتوقف لجهلنا بالواقع . والسادس : أنه إن كان فعلا له غاية يمكن إيقاعه في جميع المدة فيلزمه في جميعها ، وإلا فلا فيلزمه الأول . حكاه الهندي عن عيسى بن أبان ، ونقل في المعتمد " عن أبي عبد الله البصري أن ورود النسخ والاستثناء على الأمر يدلان على أنه قد أريد به التكرار . والسابع : إن كان الطلب راجعا إلى قطع الواقع كقولك في الأمر الساكن تحرك فللمرة ، وإن رجع إلى اتصال الواقع واستدامته كقولك في الأمر المتحرك تحرك فللاستمرار والدوام . ويجيء هذا في النهي أيضا ، وهو مذهب حسن .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية