الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7100 ) مسألة : قال : ( والصبي إذا كان له عشر سنين ، وعقل الإسلام ، فأسلم ، فهو مسلم ) وجملته أن الصبي يصح إسلامه في الجملة . وبهذا قال أبو حنيفة ، وصاحباه ، وإسحاق ، وابن أبي شيبة ، وأبو أيوب . وقال الشافعي وزفر : لا يصح إسلامه حتى يبلغ ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { رفع القلم عن ثلاثة ; عن الصبي حتى يبلغ } . حديث حسن . ولأنه قول تثبت به الأحكام ، فلم يصح من الصبي كالهبة ; ولأنه أحد من رفع القلم عنه ، فلم يصح إسلامه ، كالمجنون ، والنائم ، ولأنه ليس بمكلف ، أشبه الطفل .

                                                                                                                                            ولنا ، عموم قوله عليه السلام : { من قال : لا إله إلا الله . دخل الجنة } . وقوله : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا [ ص: 23 ] إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله } .

                                                                                                                                            وقال عليه السلام { : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، حتى يعرب عنه لسانه ، إما شاكرا وإما كفورا . } وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي ، ولأن الإسلام عبادة محضة ، فصحت من الصبي العاقل ، كالصلاة والحج ، ولأن الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام ، وجعل طريقها الإسلام ، وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الأليم ، فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله ، مع إجابته إليها ، وسلوكه طريقها ، ولا إلزامه بعذاب الله ، والحكم عليه بالنار ، وسد طريق النجاة عليه مع هربه منها ، ولأن ما ذكرناه إجماع ، فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا ، وقال :

                                                                                                                                            سبقتكم إلى الإسلام طرا صبيا ما بلغت أوان حلم

                                                                                                                                            ولهذا قيل : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن الصبيان علي ، ومن النساء خديجة ، ومن العبيد بلال ، وقال عروة : أسلم علي والزبير ، وهما ابنا ثمان سنين ، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير لسبع أو ثمان سنين ، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد إسلامه ، من صغير ولا كبير . فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم { رفع القلم عن ثلاث . } فلا حجة لهم فيه ، فإن هذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذلك ، والإسلام يكتب له لا عليه ، ويسعد به في الدنيا والآخرة ، فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وإن لم تجب عليه ، وكذلك غيرها من العبادات المحضة .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإن الإسلام يوجب الزكاة عليه في ماله ، ونفقة قريبه المسلم ، ويحرمه ميراث قريبه الكافر ، ويفسخ نكاحه . قلنا : أما الزكاة فإنها نفع ; لأنها سبب الزيادة والنماء ، وتحصين المال والثواب ، وأما الميراث والنفقة ، فأمر متوهم ، وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين ، وسقوط نفقة أقاربه الكفار ، ثم إن هذا الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة ، وخلاصه من شقاء الدارين والخلود في الجحيم ، فينزل منزلة الضرر في أكل القوت ، المتضمن قوت ما يأكله ، وكلفة تحريك فيه لما كان بقاؤه به لم يعد ضررا ، والضرر في مسألتنا في جنب ما يحصل من النفع ، أدنى من ذلك بكثير . إذا ثبت هذا فإن الخرقي اشترط لصحة إسلامه شرطين ; أحدهما ، أن يكون له عشر سنين ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه على الصلاة لعشر . والثاني : أن يعقل الإسلام . ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله . وهذا لا خلاف في اشتراطه .

                                                                                                                                            فإن الطفل الذي لا يعقل ، لا يتحقق منه اعتقاد الإسلام ، وإنما كلامه لقلقة بلسانه ، لا يدل على شيء وأما اشتراط العشر ، فإن أكثر المصححين لإسلامه ، لم يشترطوا ذلك ، ولم يحدوا له حدا من السنين . وحكاه ابن المنذر عن أحمد ; لأن المقصود متى ما حصل ، لا حاجة إلى زيادة عليه . وروي عن أحمد ، إذا كان ابن سبع سنين فإسلامه إسلام ; وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال { مروهم بالصلاة لسبع ، } فدل على أن ذلك حد لأمرهم ، وصحة عباداتهم ، فيكون حدا لصحة إسلامهم . وقال ابن أبي شيبة : إذا أسلم وهو ابن خمس سنين ، جعل إسلامه إسلاما . ولعله يقول إن عليا أسلم وهو ابن خمس سنين ; لأنه قد قيل : إنه مات وهو ابن ثمان وخمسين .

                                                                                                                                            فعلى هذا يكون إسلامه ، وهو ابن خمس ; لأن مدة النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن مات ثلاث وعشرون سنة ، وعاش علي بعد ذلك ثلاثين سنة ; فذلك ثلاث [ ص: 24 ] وخمسون ، فإذا ضممت إليها خمسا ، كانت ثمانية وخمسين . وقال أبو أيوب : أجيز إسلام ابن ثلاث سنين ، من أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه . وهذا لا يكاد يعقل الإسلام ، ولا يدري ما يقول ، ولا يثبت لقوله حكم ، فإن وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الإسلام ، وعقله إياه ، صح منه كغيره والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية