الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1482 [ ص: 219 ] (باب ما يقول الجواري في العيد)

                                                                                                                              وهو في النووي في: (كتاب صلاة العيدين) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص185-189 ج المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عائشة . قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث. فاضطجع على الفراش. وحول وجهه. فدخل أبو بكر فانتهرني. وقال: مزمار الشيطان، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما، فخرجتا. وكان يوم عيد، يلعب السودان بالدرق والحراب. فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال: "تشتهين تنظرين؟" فقلت: نعم. فأقامني وراءه. خدي على خده. وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة!" حتى إذا مللت، قال "حسبك؟" قلت: نعم. قال: "فاذهبي". .]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عائشة ) ، رضي الله عنها، (قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان، تغنيان بغناء بعاث) .

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: (جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان ما تقاولت به الأنصار، يوم بعاث. وليستا مغنيتين) .

                                                                                                                              [ ص: 220 ] "وبعاث"، بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة. ويجوز صرفه، وترك صرفه، وهو الأشهر.

                                                                                                                              وهو يوم، جرت فيه بين "قبيلتي الأنصار": الأوس والخزرج، في الجاهلية، حرب. وكان الظهور فيه للأوس.

                                                                                                                              قال عياض : قال الأكثرون من أهل اللغة، وغيرهم: هو بالعين المهملة.

                                                                                                                              وقال أبو عبيدة: بالغين المعجمة. والمشهور: المهملة.

                                                                                                                              (فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر، رضي الله عنه) (فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) .

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: (قال أبو بكر: أبمزمور الشيطان، في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيد) .

                                                                                                                              "والمزمور": بضم الميم الأولى، وفتحها. "والضم" أشهر. ولم يذكر عياض غيره. ويقال أيضا: " مزمار " بكسر الميم.

                                                                                                                              وأصله: "صوت بصفير". والزمير: "الصوت الحسن". ويطلق على الغناء أيضا.

                                                                                                                              وفيه: أن مواضع الصالحين، وأهل الفضل: تنزه عن الهوى، واللغو، ونحوه، وإن لم يكن فيه إثم.

                                                                                                                              وفيه: أن التابع للكبير، إذا رأى بحضرته: ما يستنكر، أو لا يليق بمجلس الكبير، ينكره. ولا يكون هذا، افتياتا على الكبير.

                                                                                                                              [ ص: 221 ] بل هو: أدب، ورعاية حرمة، وإجلال الكبير من أن يتولى ذلك بنفسه، وصيانة لمجلسه.

                                                                                                                              وإنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عنهن؛ لأنه مباح لهن. وتسجى بثوبه، وحول وجهه، إعراضا عن اللهو، ولئلا يستحيين، فيقطعن ما هو مباح لهن.

                                                                                                                              وكان هذا، من رأفته صلى الله عليه وسلم، وحلمه، وحسن خلقه.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى، عنها "رضي الله عنها"، عند مسلم:

                                                                                                                              ( أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان "في أيام منى" تغنيان، وتضربان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر ) .

                                                                                                                              وفي رواية: (جاريتان تلعبان بدف) بضم الدال، وفتحها. والضم: أنصح، وأشهر.

                                                                                                                              وفيه: أن ضرب دف العرب، مباح في يوم السرور الظاهر. وهو العيد، والعرس، والختان.

                                                                                                                              والمراد بأيام منى: الثلاثة بعد يوم النحر. وهي: أيام التشريق.

                                                                                                                              وفيه: أن هذه الأيام، داخلة في أيام العيد. وحكمه جار عليها، في كثير من الأحكام: كجواز التضحية، وتحريم الصوم، واستحباب التكبير، وغير ذلك.

                                                                                                                              (فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "دعهما". فلما غفل غمزتهما، [ ص: 222 ] فخرجتا. وكان يوم عيد، يلعب السودان بالرق والحراب. فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال: "تشتهين تنظرين؟" فقلت: نعم. فأقامني وراءه. خدي على خده، وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة!"، حتى إذا مللت، قال: "حسبك؟". قلت: نعم. قال: "فاذهبي".)

                                                                                                                              وفي رواية: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر في بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون وأنا جارية ) .

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى: ( يلعبون بحرابهم، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

                                                                                                                              وفيه: جواز اللعب "بالسلاح ونحوه، من آلات الحرب" في المسجد.

                                                                                                                              ويلتحق به، ما في معناه: من الأسباب المعينة على الجهاد، وأنواع البر.

                                                                                                                              وفيه: جواز نظر النساء، إلى لعب الرجال، من غير نظر إلى نفس البدن.

                                                                                                                              وأما نظر المرأة، إلى وجه الرجل الأجنبي، فإن كان بشهوة: فحرام بالاتفاق.

                                                                                                                              وإن كان بغير شهوة، ولا مخافة فتنة، ففي جوازه وجهان، أصحهما تحريمه. لقوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن .

                                                                                                                              ولقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، وأم حبيبة: "احتجبا عنه". أي: عن ابن أم مكتوم. فقالتا: إنه أعمى لا يبصرنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "أعمياوان أنتما؟! أليس تبصرانه؟!".

                                                                                                                              وهو حديث حسن. رواه الترمذي، وغيره.

                                                                                                                              [ ص: 223 ] وعلى هذا، أجابوا عن حديث عائشة، بجوابين. وأقواهما: أنه ليس فيه: أنها نظرت إلى وجوههم، وأبدانهم. وإنما نظرت لعبهم، وحرابهم.

                                                                                                                              ولا يلزم من ذلك: تعتمد النظر إلى البدن. وإن وقع النظر بلا قصد، صرفته في الحال.

                                                                                                                              "والثاني": لعل هذا كان قبل نزول الآية، في تحريم النظر. وأنها كانت صغيرة قبل بلوغها، فلم تكن مكلفة. على قول من قال: إن للصغير المراهق، النظر. والله أعلم.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الرأفة، والرحمة، وحسن الخلق، والمعاشرة بالمعروف: مع الأهل، والأزواج، وغيرهم.

                                                                                                                              وأيضا فيه: إباحة الغناء.

                                                                                                                              واختلف أهل العلم في جوازه، ومنعه.

                                                                                                                              فأباحه جماعة من أهل الحجاز . وهي رواية عن مالك .

                                                                                                                              وحرمه أبو حنيفة، وأهل العراق .

                                                                                                                              وكراهته: وهو المشهور من مذهب مالك.

                                                                                                                              قال النووي : واحتج المجوزون، بهذا الحديث.

                                                                                                                              وأجاب الآخرون: بأن هذا الغناء، إنما كان في الشجاعة، والقتل، والحق في القتال، ونحو ذلك، مما لا مفسدة فيه.

                                                                                                                              بخلاف الغناء، المشتمل على: ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطالة والقبيح.

                                                                                                                              [ ص: 224 ] قال عياض : إنما كان غناؤهما؛ بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور، والغلبة.

                                                                                                                              وهذا لا يهيج الجواري على شر. ولا إنشادهما لذلك: من الغناء المختلف فيه. وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد.

                                                                                                                              ولهذا قالت: وليستا بمغنيتين.

                                                                                                                              أي: ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات: من التشويق، والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال، وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، كما قيل: الغنا فيه الزنا.

                                                                                                                              وليستا أيضا من اشتهر وعرف بإحسان الغناء، الذي فيه تمطيط، وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن. ولا من اتخذ ذلك صنعة وكسبا.

                                                                                                                              والعرب تسمي الإنشاد "غناء". وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح.

                                                                                                                              وقد استجازت الصحابة غناء العرب، الذي هو مجرد الإنشاد والترنم.

                                                                                                                              وأجازوا الحداء، وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              وفي هذا كله إباحة مثل هذا، وما في معناه. وهذا ومثله ليس بحرام، ولا يخرج الشاهد. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: لي في ذلك "رسالة" سميتها: (كشف القناع، عن عدم تحريم مطلق السماع بالإجماع) .

                                                                                                                              [ ص: 225 ] وهي: من جملة رسائل " دليل الطالب ". أخذتها من رسالة: " إبطال دعوى الإجماع، على تحريم مطلق السماع "، لشيخنا العلامة الشوكاني " رضي الله عنه".

                                                                                                                              وحاصل القول (في هذه المسألة التي طالت ذيولها، وسالت سيولها، وقام النزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، قديما وحديثا) : ما حررناه في آخر تلك الرسالة، وعبارتها هكذا:

                                                                                                                              السماع، لا شك (بعد ما ذكرنا، من اختلاف الأقوال والأدلة) : أنه من الأمور المشتبهة. والمؤمنون وقافون عند الشبهات.

                                                                                                                              كما ثبت ذلك، في الصحيح، عنه صلى الله عليه وسلم: "فمن ترك الشبهات، فقد استبرأ لعرضه، ودينه، ومن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه".

                                                                                                                              ولاسيما: إذا كان مشتملا على ذكر القدود، والخدود، والإدلال، والجمال، والهجر، والوصال، والضم، والرشف، والتهتك، والكشف، ومعاقرة العقار، وخلع العذار والوقار.

                                                                                                                              فإن سامع هذه الأنواع، في مجامع السماع، لا ينجو من بلية، ولا يسلم من محنة، وإن بلغ "من التصلب في ذات الله" إلى حد، يقصر عنه الوصف.

                                                                                                                              وكم لهذه الوسيلة من قتيل دمه مطلول، وأسير بغموم غرامه، وهموم هيامه، مكبول.

                                                                                                                              [ ص: 226 ] ولاسيما: إذا كان المغني، حسن الصورة والصوت، كالمرأة الحسناء والغلام الجميل.

                                                                                                                              وما كان الغناء الواقع في زمن العرب "في الغالب"، إلا بأشعار فيها ذكر الحرب، وصفات الطعن والضرب، ومدح صفات الشجاعة، والكرم، والتشبيب بذكر الديار، ووصف أصناف النعم.

                                                                                                                              فليحذر المتحفظ لدينه، الراغب في إسلامه. فإن للشيطان حبائل، ينصب لكل إنسان منها: ما تليق به.

                                                                                                                              وربما كان الغناء، على الصفة التي وصفناها من أعظم خدائع الخبث. ولاسيما: لمن كان في زمن السيئة.

                                                                                                                              فإن نفسه؛ تميل إلى المستلذات الدنيوية، بالطبع.

                                                                                                                              وأيضا: السماع من أعظم الأسباب الجالبة للفقر، المذهبة للأموال، وإن كانت عظيمة القدر.

                                                                                                                              وقد قال بعض الحكماء: إن السماع من أسباب الموت. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لأن الرجل يسمع فيطرب، فينفق، فيسرف، فيفتقر، فيغتم، فيعتل، فيموت.

                                                                                                                              عصمنا الله تعالى، وإخواننا، عما يكرهه ولا يرضى به.




                                                                                                                              الخدمات العلمية