الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 1089 ] وفاته ، صلوات الله وسلامه عليه .


      وبعد أن قد بلغ الرسالة واستنفذ الخلق من الجهالة     وأكمل الله له الإسلاما
      وقام دين الحق واستقاما     قبضه الله العلي الأعلى
      سبحانه إلى الرفيق الأعلى

      .

      ( وبعد أن قد بلغ ) الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ( الرسالة ) من القرآن وبيانه أمرا ونهيا وخبرا ووعدا ووعيدا وقصصا ( واستنفذ الخلق ) حتى أنقذهم الله به ( من الجهالة ) من الشرك وما دونه ( وأكمل الله له الإسلاما ) بجمع شرائعه ظاهرها وباطنها ، ( وقام ) ظهر ( دين الحق ) الذي بعثه الله ليظهره على الدين كله ، ( واستقاما ) اعتدل فلم يبق عليه غبار ولا عنه معدل ، وذهبت عنه غياهب الشرك وظلم الغي وطغاية الشبهات ، وجاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ، ( الإسراء 81 ) ، ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) ، ( سبأ 49 ) ، وتبين الرشد من الغي ، والشرك من التوحيد ، والصدق من النفاق ، واليقين من الشك ، وسبيل النجاة من سبل الشك ، وطريق الجنة من طريق جهنم ; ( ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) ، ( الأنفال 37 ) ، ولم يبق من خير آجل ولا عاجل إلا دل الأمة عليه ، ولا شر عاجل ولا آجل إلا وحذرهم منه ونهاهم عنه ، حتى ترك أمته على الحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، وترك فيهم ما لم يضلوا إن تمسكوا به كتاب الله ، وبعد هذا ( قبضه الله العلي ) بجميع معالي العلو ذاتا وقهرا وقدرا ( الأعلى ) بكل تلك المعاني ، فلا شيء أعلى منه - عز وجل - ( سبحانه ) ، وكان قبضه إياه ( إلى الرفيق الأعلى ) ، وهي أعلى عليين ، وهي الوسيلة التي هي أعلى درجة في الجنة ، ولا تنبغي إلا له - صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرنا أن نسأل الله له ذلك ، اللهم آت نبينا محمدا الوسيلة والفضيلة ، آمين .

      [ ص: 1090 ] وكانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول ، نهار الاثنين بعد حجة الوداع بفوق ثمانين ليلة .

      قال - تبارك وتعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) ، ( آل عمران 144 - 145 ) ، وقال تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) ، ( الأنبياء 34 ) ، ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) ، ( آل عمران 185 ) ، وقال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) ، ( الزمر 31 ) .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا قتيبة ، حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال : قال : ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه فقال : " ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما شأنه استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه . وأوصاهم بثلاث قال : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم " وسكت عن الثالثة أو قال : فنسيتها .

      وله عن عائشة - رضي الله عنها : دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مسندته إلى صدري ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره فأخذت السواك فقصمته ونفضته وطيبته ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استنانا قط أحسن فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو إصبعه ثم قال : " في الرفيق الأعلى " ثلاثا ثم قضى وكانت تقول : مات بين حاقنتي وذاقنتي ، وفي رواية قالت : وبين يديه ركوة ، فيها ماء ، فجعل يدخل يديه في الماء ، فيمسح بهما وجهه [ ص: 1091 ] ويقول : لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات ، ثم نصب يده فجعل يقول : في الرفيق الأعلى ، حتى قبض ومالت يده .

      وفي أخرى قالت : فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة . وفي الصحيحين ، وهذا لفظ مسلم ، عن عبيد الله بن عبد الله قال : دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها : ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : بلى ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " أصلى الناس " ؟ قلنا . لا وهم ينتظرونك يا رسول الله . قال " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال : " أصلى الناس " قلنا : لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال أصلى الناس ؟ قلنا : لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخرة قالت : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس . فقالأبو بكر - وكان رجلا رقيقا - يا عمر صل بالناس . قال فقال عمر : أنت أحق بذلك . قالت فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتأخر وقال لهما " أجلساني إلى جنبه " فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد . الحديث .

      وفيه عن أنس - رضي الله عنه - أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع [ ص: 1092 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه ، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة ، كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستر الحجرة ، فنظرنا إليه وهو قائم ، كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكا ، فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارج للصلاة ، فأشار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أن أتموا صلاتكم .

      قال : ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرخى الستر ، قال : فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه ذلك ، وفي رواية قال : لم يخرج إلينا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا ، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم ، فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب فدفعه ، فلما وضح لنا وجه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما نظرنا منظرا قط كان أعجب إلينا من وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وضح لنا .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة . أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته أن أبا بكر - رضي الله عنه - أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مغشى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال : بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين : أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . قال الزهري : وحدثني أبو سلمة عن عبد الله بن عباس أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر : أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدا قد مات ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال الله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - إلى قوله - الشاكرين ) ، ( آل عمران 144 - 145 ) . وقال : والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس منه كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها . فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - قال : والله ما [ ص: 1093 ] هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته قالها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية