الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      هذا هو البحث الثاني وهو حكم الساحر :

      ( واحكم على الساحر ) تعلمه أو علمه عمل به أو لم يعمل ( بالتكفير ) أي بأنه كفر بهذا الذنب الذي هو السحر ، وذلك واضح صريح في آية البقرة بأمور :

      منها سبب عدول اليهود إليه وهو نبذهم الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) ( البقرة : 101 ) سواء أريد بالكتاب التوراة التي بأيديهم ، أو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك نبذه كفر ، وقد علم أن السحر لا يعمل إلا مع من كفر بالله ، وهذا معلوم من سبب نزول الآية ، كما قال الربيع بن أنس وغيره : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا ، وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عز وجل : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ( البقرة : 102 ) الآيات .

      [ ص: 550 ] ومنها قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) تتقوله وتزوره ( على ملك سليمان ) ; أي في ملكه وعهده ، ومعلوم أن استبدال ما تتلوه الشياطين وتتقوله والانقياد له والعمل به عوضا عما أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، هذا من أعظم الكفر وهو من عبادة الطاغوت التي هي أصل الكفر ، وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله ، سمى ذلك عبادة وأنه اتخاذ لهم أربابا من دون الله فقال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( التوبة : 31 ) الآية . قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها : إنا لسنا نعبدهم . قال : " أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ " قال : بلى . قال : " فتلك عبادتكم إياهم " .

      ولهذا قال تعالى بعدها : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) ( التوبة : 31 ) فإذا كان هذا في طاعة الأحبار والرهبان فكيف في طاعة الشيطان فيما ينافي الوحي ؟ فهل فوق هذا الشرك من كفر ؟ ( سبحان الله عما يشركون ) وعبادة الشيطان هي اتباعه فيما أمر به من الكفر والضلال ودعا إليه ، كما قال عز وجل فيه : ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) وكما يقول للمجرمين يوم القيامة : ( ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) ( يس : 60 - 62 ) .

      ومنها قوله تعالى : ( وما كفر سليمان ) ، برأ الله سبحانه وتعالى نبيه عليه [ ص: 551 ] السلام من الكفر ، وهذا الذي برأه تعالى منه هو علم الساحر وعمله ، وإن كان بريئا من الكفر كله معصوما مما هو دونه ، لكن سياق الآية في خصوص السحر ، وأنه بريء منه ، ولو فرض وجود عمله به لكفر ; لأنه شرك والشرك أقبح الذنوب وأعظم المحبطات للأعمال ، كما قال تعالى في جميع رسله سليمان وغيره عليهم السلام بعد أن ذكرهم : ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ( الأنعام : 88 ) ، وهذا معلوم من أصل القصة ، فإن اليهود قاتلهم الله تلقوا السحر عن الشياطين ونسبوه إلى سليمان عليه السلام ، فبرأه الله تعالى من إفكهم بهذه الآية ، كما قال مجاهد رحمه الله تعالى في هذه الآية : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) . قال : كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها ، فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك ، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر .

      وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : كان سليمان عليه السلام يتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به ، فقال أهل الحجاز - يعني اليهود من أهل الحجاز - كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر ، فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .

      وقال محمد بن إسحاق بن يسار : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليهما السلام فكتبوا أصناف السحر ، من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا ، حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه [ ص: 552 ] في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ، ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا ، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه ، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله ، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود : تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا ، والله ما كان إلا ساحرا . وأنزل الله تعالى في ذلك : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) الآية .

      وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل به . قال : فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس ، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) وتفاسير السلف وآثارهم في هذه الآية كثيرة جدا ، وما كان منه إسرائيليا فهو من القسم المقبول لموافقته ظاهر الآية في أن اليهود تعلموا السحر من الشياطين ورموا به نبي الله سليمان وأكفروه به وسبوه وخاصموا به محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، فبين الله تعالى ما لبسوه وهدم ما أسسوه وبرأ نبيه سليمان عليه السلام مما ائتفكوه وأقام الحجة عليهم في بطلان ما انتحلوه ، فلله الحمد والمنة .

      ومنها قوله تعالى : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) [ ص: 553 ] ( البقرة : 102 ) أكذب الله تعالى اليهود فيما نسبوه إلى نبيه سليمان عليه السلام بقوله : ( وما كفر سليمان ) وهم إنما نسبوا السحر إليه ، ولازم ما نسبوه إليه هو الكفر ; لأن السحر كفر ، ولهذا أثبت كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر فقال تعالى : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) وكذلك كل من تعلم السحر أو علمه أو عمل به يكفر ككفر الشياطين الذين علموه الناس ، إذ لا فرق بينه وبينهم ، بل هو تلميذ الشيطان وخريجه ، عنه روى وبه تخرج وإياه اتبع ، ولهذا قال تعالى في الملكين : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) فبين تعالى أنه بمجرد تعلمه يكفر سواء عمل به وعلمه أو لا .

      وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فإذا أتاهما الآتي مريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان ، فعرفا أن السحر من الكفر ، قال : فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا فإذا أتى عاين الشيطان فعلمه ، فإذا تعلمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول يا حسرتاه ويا ويله ماذا صنع . وروى ابن حاتم عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم ، أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله تعالى أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر . وقال قتادة : كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة ; أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر . وقال السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له : لا تكفر إنما نحن فتنة ، فإذا أبى قالا له ائت هذا الرماد فبل عليه ، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان ، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء وذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) [ ص: 554 ] الآية . وعن ابن جريج في هذه الآية : لا يجترئ على السحر إلا كافر ، والفتنة هي المحنه والاختبار .

      ومنها قوله تعالى : ( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ( البقرة : 102 ) يعني من حظ ولا نصيب ، وهذا الوعيد لم يطلق إلا فيما هو كفر لا بقاء للإيمان معه ، فإنه ما من مؤمن إلا يدخل الجنة ، وكفى بدخول الجنة خلاقا ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة . ثم قال تعالى : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ( البقرة : 102 ) .

      ومنها قوله تعالى : ( ولو أنهم آمنوا ) يعنى بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ( واتقوا ) بالسحر وسائر الذنوب ( لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) ( البقرة : 103 ) وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر ونفي الإيمان عنه بالكلية ، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي : ولو أنه آمن واتقى ، إنما قال تعالى ذلك لمن كفر وفجر وعمل بالسحر واتبعه وخاصم به رسوله ورمى به نبيه ونبذ الكتاب وراء ظهره ، وهذا ظاهر لا غبار عليه ، والله أعلم . وقد صرح بذلك أئمة السلف من الصحابة والتابعين ، وإنما اختلفوا في القدر الذي يصير به كافرا ، والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين كله كفر قليله وكثيره كما هو ظاهر القرآن .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية