الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 483 ] مسألة

" وإذا جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض "

لا تخلو المبتدأة إما أن ينقطع دمها ليوم وليلة ، ويستمر بها ، فإن انقطع فهو حيض ، تغتسل لانقطاعه ، وتصير طاهرا في جميع الأحكام ، ولا يكره لزوجها وطؤها ؛ كالمعتادة إذا طهرت لعادتها ، وعنه : يكره وطؤها حتى يتكرر بها ذلك مرتين أو ثلاثا ، فتطهر أيام حيضها ؛ لأنها لا تأمن معاودة الدم في حال الوطء ، ولا مشقة عليه في الامتناع ، فيكره وطؤها ؛ كالنفساء إذا انقطع دمها لدون الأربعين ، فعلى هذا يترك الوطء إلى تمام أكثر الحيض ؛ كما قالوا في النفساء . هذا موجب تعليل القاضي ، وصرح به غيره ، وإن استمر بها فالمشهور عن الإمام أحمد ، وهو اختيار أكثر أصحابه ، بأنها تحتاط ، فتغتسل عقب اليوم والليلة ؛ لجواز أن يكون المستمر دم استحاضة ، وتصوم الفرض ، وتصلي في هذه الأيام ، ثم إن انقطع لأكثر الحيض فما دونه اغتسلت غسلا ثانيا ؛ لاحتمال أن يكون حيضا ، فإن استمر بها الدم ثانية وثالثة على وجه واحد تبينا أنه دم حيض ، فتقضي ما صامت فيه أو طافت فيه من الفرض ؛ لأنه وقع في أيام الحيض ، فيجعل ما زاد على الحيض المتيقن مشكوكا فيه ؛ حتى يصير معتادا ، وإن انقطع دمها في الشهر الثاني لأقل الحيض تبينا أنه في الشهر الأول دم فساد ، فلا تقضي الصوم والطواف فيه ؛ لأنها فعلته في دم لم يحكم بأنه حيض ، وإنما هو كدم الاستحاضة ، ولأن اختلاف العادة يؤثر فيما ثبت أنه حيض ، ففيما لم يثبت أنه حيض أولى ، وهكذا إن زاد في الشهر الثاني على حيض الشهر الأول أو تقدم ، فإن الزيادة دم فساد ؛ لأنها لم تتكرر ، وقد ذكر أبو بكر وأكثر أصحابنا في هذه المسألة ثلاث روايات أخر ؛ إحداهن : أنها تجلس الدم جميعه ما لم تعبر أكثر الحيض ، اختاره الشيخ رحمه الله هنا ، وهو أقيس في بادئ الرأي ؛ لأن الأصل في الدم الخارج أن يكون حيضا ما لم يقم دليل على فساده ، ولا دليل هنا ؛ لأنه موجود في زمن الإمكان المعتاد ، ولأن أول الدم جلسته ؛ لأنه في وقت الإمكان ، فكذلك آخره ، ولأنه كان دم حيض قبل اليوم والليلة ، والأصل في بقائه على ما كان ، ولأن النساء لم يزلن يحضن على عهد [ ص: 484 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولم ينقل أنهن كن يؤمرن في أثناء الحيضة الأولى والثانية بالاغتسال عقب يوم وليلة ، ولو فعلن ذلك لنقل ، والثانية : أنها تجلس غالب عادات النساء ستا أو سبعا ؛ كما تجلسه المستحاضة ؛ لأن الدم الموجود في هذه الأيام يظهر أنه حيض ؛ بخلاف ما بعد ذلك ، فاحتطنا له .

والثالثة : أنها تقصد عادة نسائها ، مثل أمها وأختها وعمتها وخالتها ؛ لأن الحيض هو من باب الطبائع والجبلات ، وبنو الأب الواحد والأم الواحدة أقرب إلى الاشتراك في ذلك من غيرهم .

وقال القاضي : المذهب عندي رواية واحدة : أنها تجلس أقل الحيض ، وإنما الروايات في المبتدأة المستحاضة ، وطريقة الجمهور أقوى ؛ لأن أبا بكر أثبت ذلك عن أحمد ، وحكوا عنه ألفاظا تدل على ذلك ، وقد قال بعضهم : إذا كان قد جعل ما زاد على الأقل حيض في المستحاضة مع انفصاله بدم فاسد لكونه صالحا له ، فالصالح الذي لم يتصل بدم فاسد أولى ، وهذه الأولوية لا تجيء على المذهب ؛ لأنها متى استحيضت فليس لها وقت ترتقبه تميز فيه دم الحيض عن غيره ، ولا سبيل إلى جعل الزائد مشكوكا فيه أبدا ؛ لإفضائه إلى الحرج العظيم ، وليس الاحتياط بأن تصلي وتصوم أولى من الاحتياط بأن لا تصلي وتقضي الصوم، وقد تبينا أن بعض هذا الدم حيض ، وبعضه استحاضة ، فلهذا عدلنا إلى الفرق بين دم الحيض والاستحاضة ، بخلاف ما إذا لم يتجاوز أكثر الحيض ، فإنه دائر بين أن يكون حيضا أو استحاضة ، فأمكن الاحتياط فيه ؛ لانكشاف الأمر فيما بعد ، وهذا وجه المشهور ، ولأن هذا الدم لا تبنى عليه الاستحاضة على أصلنا ، فلم يكن حيضا كسائر الدماء الفاسدة ، ولأنه ليس قبله عادة ، ولا نتيقن أن بعده عادة ، والحيض الصحيح حاصل بدونه ، وهو دائر بين الحيض والاستحاضة ، فلم تترك الصلاة المتيقنة بشيء مشكوك فيه ؛ بخلاف [ ص: 485 ] اليوم والليلة ، فإن المرأة أهل للحيض ، وقد رأت الدم ولا بد أن يكون منه ما هو دم حيض ، ويستحيل أن يكون الدم الخارج في وقت الإمكان جميعه استحاضة ، وأمرناها أن تجلس أول ما رأته ، وإن جاز انقطاعه قبل اليوم ؛ لأن الأصل جريانه واستمراره ، فإن الانقطاع خلاف الأصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية