الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
القسم الأول

التصور الإسلامي لحقوق الإنسان وحرياته

المنظور والمرتكزات 1 -حقوق الإنسان في التصور الإسلامي الفرد في التصور الإسلامي

الفرد - كائن كرمه الله وفضله، وأعلى من قيمته وقيمة عقله، ومنحه الإرادة والاختيار، التي تعتبر من أبرز خصائص هـذا التكريم، وجعل يده مبسوطة على العالم وما فيه باستخلافه له، هـذا ما يؤكده القرآن الكريم بقوله تعالى:

( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ( الإسراء:70) .

وقد بلغ هـذا التكريم والتفضيل للإنسان -في كثير من آيات القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية الشريفة- حدا يدرك معه المتأمل أن " المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هـذه الأرض وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، وكشف ما في هـذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هـذا كله -بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله [ ص: 33 ] إليه، وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هـذا الإنسان في نظام الوجود على هـذه الأرض الفسيحة، وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم "

[1]

. فهذا التكريم الإلهي للإنسان جاء تمهيدا للمهمة التي نيطت بعهدته، وهي: الخلافة،

وذلك في قوله تعالى: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ( البقرة: 30) ،

وقوله: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) ( الأنعام: 165) .

وهذه الخلافة -المهمة الوجودية للإنسان- تعني استخلاف الله الإنسان؛ لتنفيذ مراده في الأرض، وإجراء أحكامه فيها، وهذا معناه: أن يكون الإنسان سلطانا في الكون؛ ليباشر تلك المهمة والغاية الوجودية على الوجه الأكمل، عبر التفاعل مع الكون اعتبارا وتعميرا في خط العبودية لله تعالى [2] .

وقد كانت تلك النظرة للإنسان -المطلق بقطع النظر عن عوارضه من لون أو جنس أو دين- في التصور الإسلامي، أو كما يقول مؤلف كتاب " الإسلام والأصولية التاريخية " -: [ ص: 34 ]

كان النموذج الحضاري العربي الإسلامي في تكريمه للإنسان وتوقيره، أرقى حصيلة متوفرة تمثلها رواد الحركة الإحيائية في أوروبا ، سواء في عملية التأسيس الحضاري الجديد، أو في استراتيجية الالتفات حول العصر الوسيط، المتمثل في مؤسسة الكنيسة المسيحية والفكر المدرسي آنذاك، يشهد على ذلك " بيكو دولا ميراندولا " في مقدمة كتابه حول " كرامة الإنسان " محددا منذ البداية المصدر العربي لنموذج الحركة الإنسانية في النهضة الأوربية، قائلا: أيها الآباء المبجلون، لقد قرأت في كتب العرب.. أنه ليس في الكون ما هـو أجدر بالتعظيم والتبجيل من الإنسان

[3] .

وبناء على هـذا التكريم والتفضيل والاستخلاف، منح الله الإنسان -ضمن الشريعة- حقوقا



[4]

وواجبات، هـي ( منح إلهية ) عظم أمرها، وحرم [ ص: 35 ] مصادرتها أو الاعتداء عليها أو انتهاكها، واعتبر الاعتداء على أي منها جريمة كبرى -وما شرعية الحدود، إذا تأملنا فيها، إلا حماية لهذه الحقوق- كما حرص على تمكين الأفراد من التمتع بها حرصهم عليها أو يزيد، بل دفعهم إلى مباشرتها واستعمالها؛ لأن الشريعة ما قامت إلا لتمكينهم من أن يحيوا الحياة الإسلامية التي من مقوماتها تمكينهم من التمتع بتلك الحقوق والحريات، فضلا عن حمايتها من كل انتهاك؛ فهي جزء من الشريعة، ودين واجب الاتباع، وليست مجرد إعلانات لحقوق الإنسان [5]

ذلك أن الشريعة ( الدين ) غايتها تحقيق المصالح الكبرى للبشرية

[6]

ويستحيل -في التصور الإسلامي- قيام ذلك بدون توفر تلك الحقوق [ ص: 36 ] للإنسان ووضع الحدود لحمايتها والحفاظ عليها، يقول الإمام الغزالي : " إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من: الكسوة والمسكن والأقوات والأمن.. فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هـذه المهمات الضرورية.. وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متي يتفرغ للعلم والعمل، وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخر؟! فإذن: إن نظام الدنيا، أعني: مقادير الحاجة، شرط الدين.. " [7]

وتكييف الحقوق والحريات على أنها ( منح إلهية ) -في المنظور الإسلامي- يخول الإنسان حقوقا لا سلطان لأحد عليها، ويعطيها تميزا يتجاوز الأسبقية الزمنية التي جاء بها الإسلام في مجال حقوق الإنسان كما يترتب عليه جملة نتائج، منها [8] : [ ص: 37 ]

أولا: أن مصدرها رباني ؛ وتلك الربانية -في السياق الإسلامي- هـي أصل الحقوق والواجبات ومصدرها ومرجعيتها، فهي دين من الدين، شرعها الله، وبينها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وليس مصدرها -كما في التصور الغربي- الإنسان، ولا العقل المجرد، فـ " حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المعامل، أو بين الطبقات الغنية والفقيرة، و ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعا.. وإنما هـي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هـو بين إنكار هـذه الحقوق وتقريرها.. وأن الصراع التاريخي كان بين التوحيد والتحرير وبين الخارجين عليه، الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة تتسلط على الناس؛ بين إقرار حقوق الإنسان وبين انتهاكها؛ لذلك نرى أن مرتكزات العقيدة، والشريعة، والاخلاق، والمسالك، في الرسالة الخاتمة، جميعها تتمحور حول هـذه الحقوق أو هـذه المقاصد، إيمانا وتشريعا وممارسة ورقابة، للوقاية من الانتهاك لها، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن حقوق الإنسان في حقيقة الأمر هـي مقاصد الشريعة، أو مقاصد الدين، وأن مقاصد الدين هـي حقوق الإنسان في الإسلام " [9] .

بينما حقوق الإنسان في القراءة الغربية التي ترجمها إعلان حقوق الإنسان ( 1948م ) - بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة، وحركتها [ ص: 38 ] ومرجعيتها الفكرية التي تؤطرها وتوجها اليوم –إنسانية المصدر [10]

، قد ارتبطت نشأتها بالصراع ضد الكنيسة- إبان هـيمنتها على الحضارة الغربية -والملكيات المطلقة في ظل القيصرية " وقد اقترن هـذان المعنيان ( الطغيان الكنسي ، والاستبداد السياسي ) في الصيحة التي أطلقتها الثورة الفرنسية في مواجهة هـؤلاء وهؤلاء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس "

[11]

ولهذا كان الإنسان -عندهم- هـو الذي منح نفسه هـذه الحقوق، وحارب من أجل إقرارها، فهي ثمرة التجربة وحدها؛ ولهذا فحقوق الإنسان، بالمعنى الغربي للكلمة، هـي علاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، ولكن بالمعنى الإسلامي هـي علاقة الإنسان بالله بالإضافة إلى علاقته بالمجتمع والدولة، وممارستها هـي -أولا وقبل كل شيء- استجابة لله ولرسوله، فهي جزء من عقيدة المسلم، أو هـي من صلب عقيدته، كما أنها نوع من العبادة التي يترتب عليها الثواب في الفعل والعقاب في الامتناع.

فليست حقوق الإنسان -كما يقدمها الغرب اليوم، ويريد أن يفرضها على بقية حضارات العالم- إلا مجرد قراءة علمانية لما أقرته الرسالات [ ص: 39 ] السماوية من قبل -وخاصة الإسلام

[12]

- وهي قراءة لا تعبأ بالوحي الإلهي، بل تقوم على أولوية الإنسان في الوجود، وقيامه بنفسه مصدرا لكل حق وتشريع !!

ثانيا: أن تكييفها على أنها منح إلهية يكسبها صفة دينية ، مما يجعلها تتمتع بقدر كبير من الهيبة والقدسية، بحكم مصدرها الإلهي، فلا تقبل الحذف ولا النسخ، ولا التعطيل، كما يجعل احترامها اختياريا لا قسريا، احتراما ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية؛ لأنه يستمد حقوقه وواجباته من إيمانه بالله جل وعلا، الذي شرع هـذه الحقوق والحريات، لا من روابطه الاجتماعية والعرفية، وهذا يشكل منهجية لتفعيل تلك الحقوق، وضمانة لعدم السطو عليها ومصادرتها من قبل السلطات الحاكمة؛ إذ لا يستطيع الحاكم، أو الأفراد من قبل بعضهم بعضا، السطو على تلك الحقوق والحريات ومصادرتها إلا إذا استباح لنفسه الخروج على شرع الله، وبذلك يفقد الأساس الشرعي لاستمراره في السلطة. [ ص: 40 ]

فالصفة الدينية لأحكام حقوق الإنسان ونتائجها، وتقرير مبدأ ثنائية المسئولية على الفرد والجماعة، وثنائية الجزاء في القاعدة القانونية الشرعية

[13]

، كل هـذا ضمان لتطبيقها وعدم الخروج عليها حتى مع القدرة على هـذا الخروج؛ بل يجب على الإنسان أن يطلبها، ويسعى في سبيلها، ويتمسك بالحصول عليها، فهى ترتفع -في الرؤية الإسلامية- إلى مرتبة " الضرورات " ودرجة ( الفرائض والواجبات ) بحيث تغدو واجبة للإنسان وعليه أيضا، ومن ثم فهي " مقدسة لا حق لعبد الله المستخلف أن يفرط أو يتهاون فيها؛ لأنها ليست ملكا له، بل لله سبحانه، مالكها الأوحد، والإنسان مستخلف فيها، مطلوب منه التصرف في تلك الوظيفة وفقا لإرادة المالك.. وهكذا تكسب الحقوق في التصور الإسلامي قدسية تمنع التلاعب بها من طرف حزب أو برلمان أو حاكم، إثباتا وإلغاء وتعديلا.. هـذا، ومن جهة أخرى يصبح الدفاع عنها، ومدافعة العدوان عنها، واجبا شرعيا في استخدام كل ضروب المقاومة الممكنة حتى إعلان الجهاد وطلب الاستشهاد من أجل إقرارها، الأمر الذي يجعل الإيمان بالله خير ضمان لحقوق الإنسان من ناحية تقريرها، ومن ناحية إنفإذها وتدعيمها والنضال لأجلها "

[14] [ ص: 41 ]

فالتفريط في حق من حقوق الإنسان -في القراءة الإسلامية- تفريط في جنب الله، وتعد على حدوده، وخروج على سنة الله في خلقه، وهذا بخلاف ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي تضمن حق ( الفيتو ) للدول الكبرى، الذي يمكن بموجبه إجهاض أي قرار لنصرة المظلوم، ومن ثم وصفه آرنولد توينبي بـ: ( الميثاق السخيف )

[15] .

ثالثا: كما أن استناد حقوق الإنسان إلى خالق الإنسان - في القراءة الإسلامية - يعطيها بعدا إنسانيا ، ويجعلها بمنأى عن كل الفوارق الجنسية والإقليمية والإجتماعية؛ إذ تعتمد في جوهرها على فكرة الحقوق الواجبة للإنسان العام المجرد باعتباره إنسانا، مهما اختلف لونه وموطنه ونسبه ودينه ونوعه، فالأمة الإسلامية لا تعرف عصبية العرق ، وقوام البشرية -في تصورها- ليس هـو الرابطة النسبية، ولكن رابطة الأخوة الإنسانية، فالله خالقها، وهو رب العالمين، ليس رب المسلمين وحدهم،

يقول الله تعالى: ( إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( الأنبياء: 92)

ويقول سبحانه: ( وإن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) ( المؤمنون: 52) ،

فالناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) ( الحجرات: 13) ، [ ص: 42 ] ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) ( النساء: 1) ،

ففي هـذا النداء يصف الله نفسه بأنه " المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد، معرفا عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبههم بذلك على أنهم جميعا بنو رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجب وجوب حق الأخ على أخيه، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة، وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض -وأن بعد التلاقي في النسب الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض -وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم- مثل الذي يلزمهم من ذلك النسب الأدنى، وعاطفا بذلك بعضهم على بعض؛ ليتناصفوا ولا يتظالموا، وليبذل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله "

[16] .

وفي كل أولئك تقرير لوحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير، وفي المحيا والممات، وفي الحقوق والواجبات، فلا تمايز بجنس أو طبقة، يقول الباحث الهولندي دكتور " ر. ل. مليما " : " إن مبدأ الاخوة الإسلامية الذي يضم تحت جناحه كافة البشر، بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو المعتقد، هـذا المبدأ هـو الذي جعل الإسلام الدين الوحيد القادر على تطبيق الأخوة في حيز الواقع، لا في المجال النظري فحسب "

[17]

بخلاف التصور الغربي [ ص: 43 ] الذي يقوم على تصور مادي لتلك الحقوق، حيث لا إله غير المادة، ولا سلطان غير القوة " مما يجعل هـذا الكائن المسمى إنسانا لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة، إنه ظاهرة وليس ماهية. والنتيجة أن المحدد الأساسي بل الوحيد للحريات والحقوق لا الله ولا الطبيعة الإنسانية، ولا الحق الأزلي ، إنما هـو إله آخر يسمى موازين القوى، القوة المسيطرة، الثروة، ذلك معبود الغرب ومصدر قيمه. وعبثا يحاول المستضعفون والمعذبون في الأرض أن يقنعوا جلاديهم بمختلف أسمائهم أن يجودوا عليهم -باسم الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ومختلف المواثيق الدولية وبيانات الأمم- ببعض حق. فكل ذلك محض خداع النفس. السبيل الوحيدة التي يفقهونها موازين القوى، وهي اليوم لصالحهم ولكنها قابلة للتعديل "

[18] .

ويؤكد ذلك المفكر الأمريكي " نعوم تشومسكي " ، حين تحدث عن ( الحرية ) في النظام الغربي قائلا: " هـذه الحرية -بالطبع- متوفرة لمن يملك القدرة على ممارستها. وليس منافيا للواقع اعتبار الحرية نظير سلعة في ظل الديمقراطية الرأسمالية ، وهي ليست -من حيث المبدأ- قليلة العرض، لكن يستطيع المرء أن يملك منها قدر ما يشتري "

[19] [ ص: 44 ] فطبيعة الفكر الغربي، والفلسفة الغربية طبيعة " ثنائيات " صراعية جدلية، تقوم على نفي ( الآخر ) ، والقضاء عليه؛ ومن ثم ما زالت ( الحقوق ) -في واقعها العملي- قائمة على التفريق ، وعلى الغبن ، وعلى نهب حقوق الضعفاء، وإضافتها للأقوياء زيادة في حقوقهم.. وعملية التوازن، حين توجد، تعتبر طارئة لا تتحقق إلا في حالة وجود قوى متعادلة، أو مصالح متعددة، ولعل هـذا يفسر لنا التصريحات المتناقضة بشأن حقوق الإنسان في الغرب، وسياسة الكيل بمكيالين ومدى ( احترام ) الغرب لحقوق ( الآخر ) في غير بلاده !

رابعا: أن إرتباط تلك الحقوق بالله عز وجل يعطيها ثباتا وشمولا؛ لأن الله خالق الإنسان، ولا تبدليل لحكمه، وهو أعلم بالحاجات الحقيقة لمخلوقاته التي تحقق لهم السعادة والمصلحة

( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك: 14) ،

فالذي أوجب تلك الحقوق هـو الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان، العارف بمكوناته جميعا، عقلا وعاطفة، مشاعر وأحاسيس، رغبات ورهائب، خوفا ورجاء، أملا وأمنيات، أثرة وإيثارا، شحا وكنودا، غريزة وفطرة

[20] .. إلى آخر هـذه المكونات؛ ومن ثم فإن تلك الحقوق تشمل كل جوانب الحياة المتنوعة، وتمتد إلى كل قطاعات النشاط الإنساني، فتقر له [ ص: 45 ] فيها حقوقا وحريات " سواء ما يسمى منها بالحقوق والحريات التقليدية ، أو ما يسمى بالحقوق الاجتماعية ، أو الاقتصادية، وكذلك نقصد به استغراق واستيعاب كل ما يجب للإنسان من حقوق، إبتداء من قبل وجوده في الحياة وذلك باختيار الزوجة التي تصلح أما له، ثم حقوقه جنينا، ثم رضيعا، ثم صبيا غير مميز، ثم صبيا مميزا، ثم بالغا، ثم شيخا، ثم هـرما مردودا إلى أرذل العمر، ثم ميتا. فكل هـذه المراحل مشمولة بحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، بخلاف النظرية الوضعية لحقوق الإنسان التي لا تتسم بمثل هـذا الشمول "

[21]

كما تشمل كذلك الاحتياجات والحقوق الدينية والروحية الظاهرة في كل تعاليم الإسلام وتكاليفه القائمة على تربية النفس وتزكيتها، التي تعنى بالإنسان وبجوهر إنسانيته، وبحفظ وجدانه ومشاعره وأحاسيسه

[22]

وهو ما تغفله كثير من الأدبيات الحقوقية في خطابها المعاصر.

خامسا: ومنها أيضا أن إرتباط تلك الحقوق بالله كفل توازنها، فجاء ت بعيدة عن الإفراط والتفريط ، والإفراط في حقوق الأفراد على حساب مصلحة الجماعة، أو التفريط في حقوقهم وحرياتهم لمصلحة السلطة؛ لأن المانح لهذه الحقوق هـو الله تعالى بتشريع منه، [ ص: 46 ] لا الأفراد حتى يغالوا فيها، ولا الدولة حتى تزيد في سلطانها على حساب الأفراد؛ هـذا بالإضافة إلى أن الحقوق في الإسلام جاءت مقيدة بالواجبات، فما هـو حق للفرد أو الجماعة هـو في نظر الشارع واجب تكليفي مفروض على أحدهما لصالح الآخر؛ فالخط العريض -في النظام الإسلامي- هـو: اعتبار الفرد والمجتمع معا، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن.

وما بين الفرد، والجماعة، تتحرك المعطيات الإسلامية -تشريعا وتوجيها- فيرتب الإسلام على ذلك مسئولية للفرد تجاه الجماعة، كما يقرر حقوقا للفرد على الجماعة، يوجب على كل منهما تبعات، ويرتب لكل منهما حقوقا، على نحو تلتقي فيه حقوق الفرد بحقوق الجماعة.

وبهذا ابتعد النظام الإسلامي عن الإفراط في حقوق الأفراد على حساب الجماعة، كما في الفكر الغربي الرأسمالي، أو التفريط في حقوقهم لحسابها، كما في الفكر الماركسي ، والنظامان متطرفان بالقياس إلى خصيصة الوسطية والاعتدال الإسلامية في تشريع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. [ ص: 47 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية