الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الأساس الفكري لحرية الرأي في التصور الإسلامي

على أن هـذا التصور الإسلامي لحرية الرأي -وكونها معطى إلهيا أصيلا للإنسان- نابع من أساس فكري، يقوم على أهمية الحياة الإنسانية في احترامها للكرامة والحرية وحقوق الإنسان، وهذا الأساس يرتكز على أمرين:

الأول: أن التنوع والإختلاف منطق الحياة

لقد أكد الإسلام أن التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف حقيقة يقتضيها منطق الحياة، وطبيعة الخلق في مختلف الأعصار والأمصار، وهي تعددية وتنوع في إطار وحدة الأصل الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ، فالإنسان مخلوق لخالق واحد، ومن نفس واحدة، ثم تكاثر أزواجا وألوانا وألسنة

( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) ( الروم: 22) ،

وكما يتعدد الناس ويتمايزون في الألسنة والألوان، يختلفون -كذلك- إلى شرائع وإلى مناهج، أي ثقافات وحضارات:

( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) ( المائدة: 48) ،

كما تنوع عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم ومدركاتهم وعقولهم حتى داخل الحضارة الواحدة، بل والثقافة الواحدة

( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة [ ص: 86 ] ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) ( هـود: 118-119 ) ،

أي: " لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد.. نسخا مكررة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هـذه الحياة المقدرة على هـذه الأرض، وليست طبيعة هـذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض. ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هـذا المخلوق وإتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الإتجاه. وأن يختار هـو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هـكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته "

[1] .

وهكذا فالخطاب القرآني -وهو خطاب الله المعصوم عن الخطأ والزلل للإنسان- يقر بالاختلافات العرقية واللسانية والاجتماعية، وكذا في الدين والرأي، وهو إذ يؤكد هـذا المبدأ فللدعوة إلى التواصل والتعارف

( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) ( الحجرات: 13) ..

والإدراك العميق لهذا المعنى الإنساني في فلسفة الإسلام -الدعوة إلى التواصل الفكري والمعنوي- يمهد السبيل لنشر دعوته، بقيمها الموضوعية، ومثلها العليا؛ فهو " على ثقة بأنهم متى أتيح لهم أن ينظروا في الإسلام نظر تدبر وإعلان، دون حيلولة من قوة مادية أو جهالة فكرية، فإنهم بفطرتهم يفيئون إلى الإسلام الذي يحقق [ ص: 87 ] التوازن الكامل بين جميع الأهداف التي رمت إليها الديانات من قبله، وبين جميع النزعات والأشواق في الفطرة البشرية، ويضمن للجميع المساواة المطلقة والتكامل التام، ويرمي إلى تحقيق الوحدة الإنسانية في دائرة التصور ودائرة النظام "

[2]

الثاني: أنه لا عصمة -بعد الأنبياء- لأحد

فهذه الحقيقة هـي ثاني المرتكزين، اللذين يقوم عليهما الأساس الفكري لحرية الرأي -في التصور الإسلامي- فلا عصمة لفرد ولا لجماعة ولا لمؤسسة ولا لتنظيم، بعد توقف النبوة وانقطاع الوحي، فالإسلام لم يعرف ( النظام الفرعوني ) ولا ( البابوية ) المعصومة، التي تدعي تمثيل الله في الأرض، وتجعل صاحبها قاهرا للجمهور، محتكرا للحق الإلهي، معبرا عن رأي واحد، وهو ( الحق ) وما دونه باطل وهرطقة، فيجعلون من أنفسهم آلهة في الأرض، نيابة عن إله السماء، ويعلنون أنهم المتحدثون باسم الله، أو المفسرون لتعاليمه، وبذلك يلغون مشروعية أي رأي معارض، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، باسم الدين، وهذا ما لا يعرفه الإسلام، يقول ابن تيمية : " والقاعدة الكلية في هـذا ألا نعتقد أن أحد معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ "

[3]

، ذلك أن التصور الإسلامي للإنسان، باعتباره متسخلفا في الأرض، ومنوطا به عملية التغيير فيها يرفض (سلب [ ص: 88 ] إرادته لصالح أية سلطة كنسية أو غيرها، كما إن الإسلام لم يعرف رجل الدين، أو الاحتراف الديني على المستوى الفردي، وبالتالي لا يسمح بوجود أية مؤسسة تدعي تمثيل الله -دون بقية البشر- فالله أقرب لعباده من حبل الوريد على المستوى الجمعي.. )

[4]

وبذلك ينتفي وجود أي " قداسة " أو " عصمة " لأي فئة، أو تنظيم مهما يكن، فلا عصمة لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت له بصفته الرسالية فقط، أي: في إطار أداء مهمته في البلاغ، والتذكير، والإنذار، وإنما العصمة -بعد ذلك- في قوة الرأي وصحة الدليل، يقول ابن تيمية : " واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل الناس يؤخذ بكلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الأئمة الأربعة، رحمهم الله، قد نهوا الناس عن تقليدهم، وذلك هـو الواجب عليهم، فقال أبو حنيفة : هـذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة.. والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط.. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي، ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا "

[5] [ ص: 89 ] وشعار الفكر الإسلامي في ذلك، ما قرره الإمام علي ، رضي الله تعالى عنه: " لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله "

[6]

، وما أثر عن الإمام مالك ، رحمه الله: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هـذا القبر ، وكان جالسا بجانب قبر النبي محمد، عليه الصلاة والسلام .

يقول ابن الجوزي : " الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة لا إلى الأشخاص.. إن من نظر إلى تعظيم شخص، ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ما جرى على يد المسيح صلوات الله عليه، من الأمور الخارقة، ولم ينظر إليه، فادعى فيه الألوهية، ولو نظر إليه وأنه لا يقوم، إلا بالطعام، لم يعطه ما لا يستحقه "

[7]

وقال في غير هـذا السياق، متحدثا عمن يقومون بتعظيم الرجال في مختلف المذاهب والإتجاهات: " وأعلم أن عموم أصحاب المذاهب، يعظم في قلوبهم الشخص، فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر، ينبغي أن يكون إلى القول، لا إلى القائل " [8]

ولهذا فالناظر في مناهج العلم في الفكر الإسلامي، يدرك حقيقة، لا تخطئها العين، تقرر: " إن العلم عند علماء المسلمين ما هـو إلا تاريخ طويل لطلب الدليل " فالعلم إما أن يكون نقلا صادقا عن معصوم، وإما أن يكون [ ص: 90 ] قولا صححته العقول، وما سوى ذلك فمزيف مردود، مهما كانت منزلة صاحبه أو مكانته؛ إذ ليس لأحد " أن ينشئ حكما بالهوى واتباع الشهوات، بل لا بد أن يكون ذلك القول الذي حكم به قاله إمام معتبر "

[9]

ومن هـنا أخذ علماء آداب البحث والمناظرة قاعدتهم المشهورة التي يقولون فيها: " إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل " .

وقد وردت الإشارة إلى مضمون هـذه القاعدة في كثير من الآيات القرآنية التي تطالب الطرف ( الآخر ) بتقديم البراهين والحجج المنطقية،

منها قول تعالى: ( أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( النمل: 64) ،

وقوله تعالى: ( قل هـاتوا برهانكم هـذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ) ( الأنبياء: 24) ،

وهذا المفهوم لا يتأكد إلا إذا كان الرأي والرأي الآخر، والتعبير به وتفهمه، ونقده وتمحيصه، [ ص: 91 ] والمناصحة وتبادل وجهات النظر، والتداول الحر للآراء، أمرا متاحا للجميع، يقول الإمام أبوحنيفة ، رحمه الله: " هـذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر عليه أحدا، ولا نقول يجب على أحد قبوله، فمن كان عنده أحسن منه، فليأت به " .

ونستخلص من هـذا الأساس الفكري لحرية الرأي في المنظور الإسلامي -بمرتكزيه: التنوع والاختلاف منطق الحياة ولا عصمة، بعد الأنبياء لأحد- الحقائق التالية:

أ - إن هـذا التنوع، والتمايز، والاختلاف -في التصور الإسلامي- يتجاوز كونه " حقا " من حقوق الإنسان إلى حيث هـو " سنة " مطردة -لا عشوائية ولا تتخلف- من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، وآية من آياته سبحانه.

[10]

وإن هـذا التنوع والتمايز قرار رباني هـادف يرتبط بعلة غائية أشار إليها -سبحانه- في قوله...

( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119)

فهو تنوع محمود، فلا يزال البشر يختلفون لاختلاف الفهوم والعقول، وتباين المعرفة والتجارب، وتنوع الأذواق والنظرات. وهذا يعني: التسليم به واقعا لا يسع عاقلا إنكاره، كما لا يملك أحد أو سلطة حرمان المختلفين منه، [ ص: 92 ] يقول ابن القيم : " وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه "

[11] .

ومن ثم كان قبول (الآخر) جزء لا يتجزأ من ثقافتنا وحضارتنا وديننا الحنيف، بل نستطيع أن نقرر في يقين: أن أبرز ما في منظومة القيم التي تتبناها الحضارة الإسلامية الاعتراف (بالآخر) والتعايش معه، أي: عدم إقصائه أو إلغائه، ليس على المستوى الفكري فحسب، وإنما على المستوى الفعلي؛ وذلك بإعطائه حرية التعبير عن آرائه ومعتقداته، بل والدفاع عن حقه في ذلك؛ فالقرآن الكريم -إلى جانب ذمه المسلك الفرعوني القائم على التسلط، وإقصاء (الآخر) ، وحصره في إطار رؤيته- نراه يعرض ( الآخر) بكل آرائه ومعتقداته وممارساته، وتتواتر فيه أقوال الكتابيين والمنافقين، كفرا ونقدا.

ولا نبالغ إذا قلنا: " إنه لا توجد مضبطة لأي مجلس نيابي في التاريخ كله قديمه وحديثه، تحوي من آراء المعارضة أو هـجومها أو طعنها، ما حواه القرآن من آراء معارضيه، ومن هـجومهم، ومن طعنهم في كل الأسس التي يقوم عليها الدين ويعتمد عليها كيانه:

[12] ، تجد ذلك فيما نقله القرآن الكريم من حوار بين الله عز وجل وملائكته، وكذلك من حوارات بينه سبحانه [ ص: 93 ] وبين إبليس، عليه لعنة الله، في موقف خلق آدم عليه السلام : ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هـذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ( الحجر: 28-42) .

وكذلك في حوارات الأنبياء والرسل مع أقوامهم، وحوارات العتاة والطغاة والمستكبرين في الأرض، وكلها حوارات تقوم على إعطاء الخصم الحرية في التعبير عن رأيه، مهما تكن صفة هـذا الخصم أو شأنه، ومهما كانت طبيعة رأيه، سواء ضد الله سبحانه ذاته!! أو ضد رسله، أو ضد كتبه ومعجزاته!! أو نقدا حادا للمسلمين!! بل تبلغ النصفة قمتها حينما يسوي القرآن الكريم بين رأي الخصم ورأي الأنبياء في الضلالة أو الهدي، تاركا للقارئ اختيار أي من الرأيين:

( قل من يرزقكم من السماوات [ ص: 94 ] والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هـدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) (سبأ:24-25) ،

هذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال والحوار، وقمة التعددية والتنوع والانفتاح على الرأي الآخر، وأسمى قواعد التعارف والتثاقف بين الرأي والرأي الآخر، يقول الزمخشري في تفسيره: " وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف، قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك " [13]

وهذا المنهج الإسلامي في الحوار، واحترام الرأي الآخر، في تعدده وتنوعه، هـو الخطوة الأولى في رؤية وجه الحق -حيث لا إكراه ولا احتكار للحقيقة - ثم في الاقتناع به.

ب - أن التسليم بهذه التعددية البشرية، وذلك الاختلاف والتمايز الإنساني، يؤسس -بغير جهد كبير- للتعددية الفكرية، والتسليم بحق التعددية والاختلاف في الرؤى والاتجاهات والأفكار والمواقف؛ ومن ثم التسليم باختلاف الرأي، والرأي الآخر، وهو فطرة، وحرية التعبير عنه، وهو حق أزلي، فلا يمكن جمع الخلائق على رأي أو رؤية واحدة؛ إذ ذلك يخالف أصل الفطرة والخلقة والنشأة الأولى، أو على حد تعبير الإمام الغزالي : [ ص: 95 ]

" لا حيلة في إصغائهم (أي: اجتماعهم على رأي واحد) فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي؟! وكيف يجتمعون على الإصغاء، وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم؟! "

[14] .

وهذا التعدد والتنوع والاختلاف في الرؤى واضح في ميراثنا الفقهي والفكري -بما يحمله من الرأي والرأي الآخر، والدليل والاعتراض عليه- فقد تعددت مدارسه، وتنوعت منطلقاته وقواعده، واختلفت حججه وضوابطه، فاختلف الأئمة في كثير من الأمور الاجتهادية، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم، واجتمعت المدارس العقلية والنقلية، والمذاهب الكلامية، ومناهج المأثور والمعقول، وفقه الأثر وفقه الرأي ، دون أن ينكر بعضهم على بعض أو يحجر عليه رأيه، يقول ابن تيمية ، واصفا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة، وأخوة الدين " [15]

؛ إيمانا منهم أن هـذا التعدد والتنوع في الرؤى ليس عيبا علميا ولا خطأ منهجيا، ولا أمرا مستغربا، بل الغرابة ألا يحصل؛ إذ هـو في الحقيقة خطوة جادة في طريق تصحيح المفاهيم والوصول إلى الحقيقة، ومن [ ص: 96 ] هنا كان من قواعدهم: أن المخالف ( أي: صاحب الرأي الآخر ) قد يكون عنده " خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة " كما جاء في تلك الرسالة العلمية الرائعة التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه، ويخالفه فيه الليث بن سعد [16] ، وتلك عبارات -حول الاعتراف بالرأي الآخر- تأسر القلب أسرا، نحن أحوج ما نكون إلى مثلها في أدبيات خطابنا المعاصر.

ج - إن طرق الوصول إلى الحقيقة متعددة ومتنوعة، يقول الإمام ابن القيم : " والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هـي أقوى منه، وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق وعرف العدل، وجب الحكم بموجبها وبمقتضاها. والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذاتها، وانما المراد غاياتها التي هـي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق الا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها " [17] . وهذا كلام نفيس يوجب [ ص: 97 ] الإقرار بوجود الرأي والرأي الآخر، من غير إكراه أو إذلال أو إنكار للأفكار والآراء.

ومن ثم شاع -في الفكر الإسلامي ما عرف بـ ميزان ( الرأي المشترك ) وهو ميزان عريق، نقله ابن القيم عن سيدنا عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه، فقال: " وعن عمر أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت ؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك ؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال علي وزيد " [18] .

وهذا الميزان يقتضي استقبال الخلاف في الرأي كظاهرة طبيعية منتظرة من جمهرة المشاركين في النظر، وعدم التبرم من ذلك، وخاصة في المواطن التي لا يضبطها نص وتحتاج إلى الرأي، وكان لكل واحد من الناظرين وجه صحيح، فيكون من لوازم ذلك استقبال الخلاف في الرأي استقبالا حسنا -دون دعوى احتكار الصواب من أحد- وهذا ما قرره الإمام الشافعي ، رحمه الله تعالى، في قولته الشهيرة: " رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " وأكدها آخر في أعقاب فتوى له: [ ص: 98 ]

" قد قيل في المسألة غير هـذا الذي ترجح لي عند النظر في النازلة، ولا أقول إني أصبت وأخطا غيري، وكيف يصح مني؟ !!.. وكل منا يتطلب في هـذه المسألة وغيرها من المسائل النازلة عن رب الأرباب، الكريم الوهاب: الإرشاد إلى الحق والهداية إلى الصواب، ولا نرى قط مجتهدا منصفا يجزم بخطأ صاحبه، بل يقر بتجويز خطأ نفسه، ولكنه مع ذلك يرغب من مولاه التقرب إليه بإصابة الحق " . [19]

وهذا الميزان ( الرأي المشترك ) ينبهنا إلى خطورة القراءة الأحادية للنصوص، وخاصة المقولات الدينية، وما ينتج عنها من تخندقات عصبوية خلف هـذه القراءة أو تلك، بل لا بد من إشاعة قراءات متعددة ومتنوعة، بعيدا عن الاستبداد بالرأي ونفي ( الآخر) . وهذا ما أدركه الإمام مالك ابن أنس ، رحمه الله تعالى، بعد تأليف ( الموطأ ) حينما حذر من فرض الرأي والوصاية الفكرية على الأمة في الأمور الاجتهادية، [ ص: 99 ] " فعن محمد بن عمر قال: سمعت مالك بن أنس ، رحمه الله، يقول: " لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه فحدثته، وسألني فأجبته، فقال: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هـذه التي وضعتها -يعني الموطأ- فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدوها إلى غيرها، ويدعوا ما سوى ذلك من هـذا العلم المحدث؛ فاني رأيت أصل هـذا العلم رواية أهل المدينة وعلمهم " ، قال: فقلت يا أمير المؤمنين: " لا تفعل، فان الناس قد سبقت اليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق اليهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف الناس، اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وأن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هـم عليه، وما أختار كل بلد لأنفسهم " ، فقال المنصور : " لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرت به ، قال ابن عبد البر : " وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم " [20]

؛ لأن ( شمول النظر ) و ( الرأي المشترك ) لا ينشأ في بيئة يقودها كبت الرأي، والحجر على العقول، وحصر الناس في إطار رؤية فكرية واحدة يستحيل تجاوزها، وهذا ما أدى في عصور الانحطاط المتأخرة إلى نشوء جماعات وفرق ومذاهب تتبنى آراء وفلسفات فكرية، وقراءات للنصوص، لا يرون الصواب في غيرها مطلقا، فكان من الفساد ما كان؛ لوقوفها أمام التيار الجارف لسنن الله الكونية التي تقضي بالتعدد والتنوع وترفض نفي ( الآخر ) وتجاهله. [ ص: 100 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية