الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ امتحان الإمام البخاري ] : ( نحو امتحانهم ) أي : المحدثين ببغداد ( إمام الفن ) وشيخ الصنعة البخاري ، صاحب الصحيح ، ( في مائة ) من الحديث ( لما أتى ) إليهم ( بغدادا ) بالمهملة آخره على إحدى اللغات ; حيث اجتمعوا على تقليب متونها وأسانيدها ، وصيروا متن هذا السند لسند آخر ، وسند هذا المتن لمتن آخر ، وانتخبوا عشرة من الرجال ، فدفعوا لكل منهم منها عشرة ، وتواعدوا كلهم على الحضور لمجلس البخاري ، ثم يلقي عليه كل واحد من العشرة أحاديثه بحضرتهم .

فلما حضروا واطمأن المجلس بأهله البغداديين ، ومن انضم إليهم من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ، تقدم إليه واحد من العشرة ، وسأله عن أحاديثه واحدا واحدا ، والبخاري يقول له في كل منها : لا أعرفه .

وفعل الثاني كذلك إلى أن استوفى العشرة المائة ، وهو لا يزيد في كل منها على قوله : لا أعرفه ، فكان الفهماء ممن حضر يلتفت بعضهم إلى بعض ، ويقولون : فهم الرجل ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي عليه بالعجز والتقصير وقلة الفهم ; لكونه عنده لمقتضى عدم تمييزه لم يعرف واحدا من مائة .

ولما فهم البخاري من قرينة الحال [ ص: 338 ] انتهاءهم من مسألتهم ، التفت للسائل الأول ، وقال له : سألت عن حديث كذا وصوابه كذا ، إلى آخر أحاديثه ، وهكذا الباقي ( فردها ) أي : المائة إلى حكمها المعتبر قبل القلب ( وجود الإسنادا ) ولم يرج عليه موضع واحد مما قلبوه وركبوه ، فأقر له الناس بالحفظ ، وعظم عندهم جدا ، وعرفوا منزلته في هذا الشأن وأذعنوا له .

رويناها في مشايخ البخاري لأبي أحمد بن عدي ، قال : سمعت عدة مشايخ يحكون ، وذكرها .

ومن طريق ابن عدي رواها الخطيب في تأريخه وغيره ، ولا يضر جهالة شيوخ ابن عدي فيها ; فإنهم عدد ينجبر به جهالتهم ، ثم إنه لا يتعجب من حفظ البخاري لها ، وتيقظه لتميز صوابها من خطئها ; لأنه في الحفظ بمكان ، وإنما يتعجب من حفظه لتواليها ; كما ألقيت عليه من مرة واحدة .

وقد قال العجلي : ما خلق الله أحدا كان أعرف بالحديث من ابن معين ، لقد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وقلبت ، فيقول : هذا كذا ، وهذا كذا ، فيكون كما قال .

في ترجمة العقيلي من ( الصلة ) لمسلمة بن قاسم أنه كان لا يخرج أصله لمن يجيئه من أصحاب الحديث ، بل يقول له : اقرأ في كتابك فأنكرنا - أهل الحديث - ذلك فيما بيننا عليه ، وقلنا : إما أن يكون من أحفظ الناس أو من أكذبهم .

ثم عمدنا إلى كتابة أحاديث من روايته بعد أن بدلنا منها ألفاظا ، وزدنا فيها ألفاظا ، وتركنا منها أحاديث صحيحة ، وأتيناه بها والتمسنا منه سماعها ، فقال لي : اقرأ فقرأتها عليه ، فلما انتهيت إلى الزيادة والنقصان ، فطن وأخذ في الكتاب فألحق [ ص: 339 ] فيه بخطه النقص ، وضرب على الزيادة وصححها كما كانت ، ثم قرأها علينا فانصرفنا وقد طابت أنفسنا ، وعلمنا أنه من أحفظ الناس .

وقال حماد بن سلمة : كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث ، فكنت أقلب على ثابت الحديث ، أجعل أنسا لابن أبي ليلى ، وابن أبي ليلى لأنس أشوشها عليه ، فيجيء بها على الاستواء .

وحكى العماد بن كثير ، قال : أتى صاحبنا ابن عبد الهادي على المزي ، فقال له : انتخبت من روايتك أربعين حديثا أريد قراءتها عليك ، فقرأ الحديث الأول ، وكان الشيخ متكئا فجلس ، فلما أتى على الثاني تبسم ، وقال : ما هو أنا ، ذاك البخاري .

قال ابن كثير : فكان قوله هذا عندنا أحسن من رده كل متن إلى سنده .

وقال هبة الله بن المبارك الدواني : اجتمعت بالأمير أبي نصر بن ماكولا ، فقال لي : خذ جزأين من الحديث واجعل متن الحديث الذي في هذا الجزء على إسناد الذي في هذا الجزء من أوله إلى آخره ، حتى أرده إلى حالته الأولى من أوله إلى آخره .

وربما يقصد بقلب السند كله الإغراب أيضا ; إذ لا انحصار له في الراوي الواحد ، كما أنه قد يقصد الامتحان بقلب راو واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية