الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2275 - مسألة : فيمن سرق خمرا لذمي ، أو لمسلم ، أو سرق خنزيرا كذلك ، أو ميتة كذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله : نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : من سرق خمرا من أهل الكتاب ، قال عطاء : زعموا في الخمر ، والخنزير ، يسرقه المسلم من أهل الكتاب يقطع ، من أجل أنه حل لهم في دينهم ، وإن سرق ذلك من مسلم فلا قطع عليه .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال : من سرق خمرا من أهل الكتاب قطع .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا قطع عليه في ذلك ، ولكن يغرم لها مثلها - وهذا قول شريح ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم . وقالت طائفة : لا قطع عليه ذلك ، ولا ضمان - وهو قول الشافعي ، وأحمد ، وأصحابهما - وبه يقول أصحابنا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في ذلك ، فرأينا قول من أوجب الضمان وأسقط القطع ، في غاية الفساد ; لأنه لا يخلو الخمر ، والخنزير ، من أن يكونا مالا للذمي له قيمة ، أو لا يكونا مالا له ، ولا سبيل إلى قسم ثالث أصلا ، فإن كانت الخمر ، والخنزير ، مالا للذمي ، لهما قيمة ، فالقطع فيهما واجب - على أصولهم - إذا بلغ كل واحد منهما ما فيه القطع .

                                                                                                                                                                                          وإن كان الخمر ، والخنزير ، لا قيمة لهما ، وليسا مالا للذمي ، فبأي وجه قضوا بضمان ما لا قيمة له ، ولا هو مال ، وهل هذا منهم إلا قضاء بالباطل ؟ وإيكال مال بغير [ ص: 322 ] حق ، لا سيما وهم يقولون : إن المسلم إن سرق خمرا لمسلم ، أو خنزيرا لمسلم ، فلا قطع ، ولا ضمان ; لأنهما ليسا مالا له ، ولا لهما قيمة . والعجب كله ، كيف يقضون بضمانهما عليه - وهو لا سبيل له إلى قضائهما - ; لأنه عندهم مما يكال أو يوزن - ففيهما المثل عندهم .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول من رأى القطع في ذلك والضمان ، وقول من لا يرى في ذلك - لا قطعا ولا ضمانا .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا فيمن رأى القطع والضمان ، فلم نجد لهم حجة أصلا . إلا إن قالوا : إنها مال لهم ، ولها قيمة عندهم ؟ فقلنا لهم : أخبرونا ، أبحق من الله تملكوها ، واستحقوا ملكها وشربها ، أو بباطل ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : بحق ، وأمر من الله تعالى ، كفروا بلا خلاف - وهم لا يقولون هذا - ويلزمهم أن يقولوا : إن دين اليهود والنصارى حق ، وهذا لا يقوله مسلم أصلا .

                                                                                                                                                                                          قال الله تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } .

                                                                                                                                                                                          فإذ قد صح ما قلنا ، وصح أن الله تعالى حرم شرب الخمر ، على كل مسلم وكافر ، وحرم بيعها على كل مسلم وكافر ، وحرم ملكها على كل مسلم وكافر بقوله تعالى آمرا للرسول عليه السلام أن يقول { يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } .

                                                                                                                                                                                          وبقوله عليه السلام { كل مسكر حرام } وأن الذي حرم شربها حرم بيعها ، ثبت أنها ليست مالا لأحد ، وأنه لا قيمة لها أصلا ، وكذلك الخنزير - للتحريم الوارد فيه جملة .

                                                                                                                                                                                          فإذ قد حرم ملكها جملة ، كان من سرقها لم يسرق مالا لأحد ، لا قيمة لها [ ص: 323 ] أصلا ، ولا سرق شيئا يحل إبقاؤه جملة ، فلا شيء عليه - والواجب هرقها على كل حال لمسلم وكافر ، وكذلك قتل الخنازير - وبالله تعالى التوفيق - قال أبو محمد رحمه الله : وأما من سرق ميتة ، فإن فيها القطع ; لأن جلدها باق على ملك صاحبها ، بدبغه فينتفع به ويبيعه . فإن قيل : ما الفرق بين الخنزير والميتة ؟ أوجبتم القطع في الميتة من أجل جلدها ، ولم توجبوا القطع في الخنزير ؟ فهلا أوجبتموه من أجل جلده ، وجلده وجلد سائر الميتات سواء - في جواز الانتفاع به وبيعه - إذا دبغ ؟ فجوابنا : أن الفرق بينهما في غاية الوضوح - ولله الحمد - وهو أن الميتة كانت في حياتها متملكة لصاحبها بأسرها ، فلما ماتت سقط ملكه عن لحمها ، وشحمها ، ودمها ; ومعاها ، وفرثها ، ودماغها ، وغضاريفها ; لأن كل هذا حرام مطلق التحريم ، وبقي ملكه كما كان ، على ما أباح الله تعالى له الانتفاع به منها ، وهو الجلد ، والشعر ، والصوف ، والوبر ، والعظم ، فلا يخرج عن ملكه ، إلا بإباحته إياه لإنسان بعينه ، أو لمن أخذه ويعلم ذلك بطرحه الجميع ، وتبريه منه ، فهو ما لم يطرحه مالك لذلك ، فإن سرق فإنما سرق شيئا متملكا ، ملكا صحيحا ، ومال من مال مسلم ، أو ذمي ، فالقطع فيه .

                                                                                                                                                                                          وأما الخنزير فلا يقع عليه في حياته ملك لأحد ; لأنه رجس محرم جملة فمن سرقه حيا ، أو ميتا ، فإنما أخذ مالا لا مالك له ، وما لا يحل لأحد تملكه فجلده لمن بادر إليه ، وأخذه ، ودبغه ، فإذا دبغ صار حينئذ ملكا من مال متملكه ، من سرقه فعليه فيه القطع ، والقطع واجب في عظام الفيل كما ذكرنا والميتات كلها كذلك ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إنما حرم أكلها } حاش عظم الخنزير ، وشعره ، وكل شيء منه حرام جملة ، لا يحل لأحد تملك شيء منه ، إلا الجلد فقط بالدباغ ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيما إهاب دبغ فقد طهر } وبالله تعالى التوفيق ;

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية