الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1196 - وحدثني عمر بن أيوب السقطي ، قال : حدثنا محمد بن معاوية بن [ صالح ] ، قال : حدثنا كثير بن مروان الفلسطيني ، عن الحسن بن [ ص: 1726 ] عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سويد بن غفلة ، قال : مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر ، وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما ، فدخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت : يا أمير المؤمنين ، مررت بنفر من أصحابك يذكرون أبا بكر ، وعمر بغير الذي هما فيه من الأمة أهل ، ولولا أنهم يرون أنك تضمر لهما مثل ما أعلنوا ما اجترؤوا على ذلك . قال علي رضي الله عنه : " أعوذ بالله ، أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الذي أتمنى عليه المضي ، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه ووزيراه . رحمة الله عليهما ، ثم قام دامع العين يبكي ، قابضا على يدي حتى دخل المسجد ، فصعد المنبر ، وجلس عليه متمكنا قابضا على لحيته ، ينظر فيها ، وهي بيضاء ، حتى اجتمع الناس ، ثم قام فتشهد بخطبة موجزة بليغة ، ثم قال : ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش ، وأبوي المسلمين بما أنا عنه متنزه ، وعما قالوا بريء ، وعلى ما قالوا معاقب ، أما والذي فلق الحبة ، وبرى النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي ، ولا يبغضهما إلا فاجر رديء ، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق والوفاء يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان ، فما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله [ ص: 1727 ] صلى الله عليه وسلم ، ولا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى مثل رأيهما رأيا ، ولا يحب كحبهما أحدا ، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو عنهما راض ، والمؤمنون عنهما راضون ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على صلاة المؤمنين ، فصلى بهم سبعة أيام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قبض الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، واختار له ما عنده ، وولاه المؤمنون ذلك ، وفوضوا الزكاة إليه لأنهما مقرونتان ، ثم أعطوه البيعة طائعين غير مكرهين ، أنا أول من سن ذلك له من بني عبد المطلب ، وهو لذلك كاره ، يود أحدا منا كفاه ذلك ، وكان والله خير من بقي ، وأرأفه رأفة ، وأكيسه ورعا ، وأقدمه سنا وإسلاما ، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل رأفة ورحمة ، وبإبراهيم عفوا ووقارا ، فسار فينا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى مضى على أجله ذلك .

ثم ولى الأمر بعده عمر رحمه الله واستأمر المسلمين في هذا فمنهم من رضي ومنهم من كره ، وكنت فيمن رضي فلم يفارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه ، فأقام الأمر على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، يتبع آثارهما كاتباع الفصيل أثر أمه ، وكان والله رفيقا رحيما بالضعفاء ، وللمؤمنين عونا ، وناصرا للمظلومين على الظالمين ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم ضرب الله عز وجل بالحق على لسانه ، وجعل الصدق من شأنه حتى كنا نظن أن ملكا ينطق على لسانه ، فأعز الله بإسلامه الإسلام ، وجعل هجرته للدين قواما ، وألقى الله عز وجل له في قلوب المنافقين الرهبة ، وفي قلوب المؤمنين المحبة ، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام فظا غليظا على الأعداء ، وبنوح حنقا مغتاظا على [ ص: 1728 ] الكفار ، الضراء على طاعة الله عز وجل آثر عنده من السراء على معصية الله ، فمن لكم بمثلهما رحمة الله عليهما ؟ ! ورزقنا المضي على أثرهما والحب لهما ، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع أثرهما ، والحب لهما ، فمن أحبني فليحبهما ، ومن لم يحبهما فقد أبغضني ، وأنا منه بريء ، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة ، ولكنه لا ينبغي أن أعاقب قبل التقدم ، ألا فمن أتيت به يقول هذا بعد اليوم فإن عليه ما على المفتري ، ألا وإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، وعمر ، ثم الله أعلم بالخير أين هو ، أقول قولي هذا ويغفر الله لي ولكم .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

ويذكر في هذا الباب قصة وفاة أبي بكر : لما قبض أبو بكر رضي الله عنه ، وسجي عليه ، ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه باكيا مسرعا مسترجعا وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبوة ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر ، وأبو بكر رضي الله عنه مسجى فقال : رحمك الله أبا بكر كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنيسه ومستراحه ، وثقته ، وموضع سره ومشاورته ، وكنت أول القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا ، وأشدهم يقينا ، وأخوفهم لله تبارك وتعالى ، وأعظمهم غنى في دين الله عز وجل ، وأحوطهم على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأحدبهم على الإسلام ، وآمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأفضلهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا ورحمة وفضلا ، أشرفهم [ ص: 1729 ] منزلة ، وأكرمهم عليه وأوثقهم عنده ، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرا ، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر ، صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقا فقال في كتابه : ( والذي جاء بالصدق وصدق به ) أبو بكر .

وآسيته حين بخلوا ، وأقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا ، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة ، وصاحبته في الغار .

والمنزل عليه السكينة ، ورفيقه في الهجرة وخلفته في دين الله عز وجل وفي أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس ، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي ، فنهضت حين وهن أصحابه ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا ، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت خليفته حقا ، لم تنازع ولم تصدع بزعم المنافقين ، وكبت الكافرين ، وكره الحاسدين ، وفسق الفاسقين وغيظ الباغين ، وقمت بالأمر حين فشلوا . . .وذكر الحديث إلى آخره .

ثم قال : رضينا عن الله قضاه ، وسلمنا له أمره ، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا . . .وذكر الحديث ، وسنذكره بطوله في موضع آخر .

قال محمد بن الحسين رحمه الله : [ ص: 1730 ]

من يقول على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، غير ما ذكرنا من بيعته له ورضاه بذلك ، ومعونته له وذكر فضله فقد افترى على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ونحله إلى ما قد برأه الله عز وجل من مذاهب الرافضة الذين قد خطا بهم عن سبيل الرشاد .

فإن قال [ قائل ] : فإنه قد روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه ، إلا بعد أشهر ، ثم بايعه .

قيل له : إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند من عقل عن الله عز [ ص: 1731 ] وجل أعلى قدرا ، وأصوب رأيا مما ينحله إليه الرافضة ، وذلك أن الذي ينحل هذا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عليه فيه أشياء لو عقل ما يقول ، كان سكوته أولى به من الاحتجاج به ، بل ما يعرف عن علي رضي الله عنه ، غير ما تقدم ذكرنا له من الرضى والتسليم لخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وكذا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون لأبي بكر رضي الله عنه بالخلافة والفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية