الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1457 - حدثنا العباس بن أحمد الختلي المعروف بابن أبي شحمة قال [ ص: 1981 ] : حدثنا دهثم بن الفضل أبو سعيد الرملي ، قال : ثنا المؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، وهشام ، عن محمد بن سيرين قال : " لقد كان في الدار جماعة من المهاجرين والأنصار وأبناؤهم ، منهم : عبد الله بن عمر ، والحسن والحسين وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، الرجل منهم خير من كذا وكذا ، يقولون : يا أمير المؤمنين ، خل بيننا وبين هؤلاء القوم ، فقال : أعزم على كل رجل منكم وإن لي عليه حقا أن لا يهريق في دما ، وأحرج على كل رجل منكم لما كفاني اليوم نفسه" .

فإن قال قائل : فقد علموا أنه مظلوم ، وقد أشرف على القتل ، فكان ينبغي لهم أن يقاتلوا عنه ، وإن كان قد منعهم .

قيل له : ما أحسنت القول ؛ لأنك تكلمت بغير تمييز .

فإن قال : ولم ؟ [ ص: 1982 ]

قيل : لأن القوم كانوا أصحاب طاعة ، وفقهم الله تعالى للصواب من القول والعمل ، فقد فعلوا ما يجب عليهم من الإنكار بقلوبهم وألسنتهم ، وعرضوا أنفسهم لنصرته على حسب طاقتهم ، فلما منعهم عثمان رضي الله عنه من نصرته ، علموا أن الواجب عليهم السمع والطاعة له ، وأنهم إن خالفوه لم يسعهم ذلك ، وكان الحق عندهم فيما رآه عثمان رضي الله عنه وعنهم .

فإن قال : فلم منعهم عثمان من نصرته وهو مظلوم ، وقد علم أن قتالهم عنه نهى عن منكر ، وإقامة حق يقيمونه ؟ .

قيل له : وهذا أيضا غفلة منك .

فإن قال : وكيف ؟

قيل له : منعه إياهم عن نصرته يحتمل وجوها ، كلها محمودة : -

أحدها : علمه بأنه مقتول مظلوم لا شك فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه أنك تقتل مظلوما ، فاصبر ، فقال : أصبر . فلما أحاطوا به علم أنه مقتول ، وأن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له حق كما قال ، لابد من أن يكون ، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر ، فصبر كما وعد ، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه والذب عنها فليس هذا بصابر ، إذ وعد من نفسه الصبر فهذا وجه .

ووجه آخر : وهو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد ، وأن الذين يريدون قتله كثير عددهم ، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه ، فوقاهم بنفسه إشفاقا منه عليهم ؛ لأنه راع والراعي [ ص: 1983 ] فواجب عليه أن يحيط رعيته بكل ما أمكنه ، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه ، وهذا وجه .

ووجه آخر : وهو أنه لما علم أنها فتنة ، وأن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق ؛ فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف ، وهذا أيضا إشفاق منه عليهم ، نعم ، وتذهب فيها الأموال ، ويهتك فيها الحريم ، فصانهم عن جميع هذا .

ووجه آخر ، يحتمل أن يصبر عن الانتصار لتكون الصحابة رضي الله عنهم شهودا على من ظلمه ، وخالف أمره ، وسفك دمه بغير حق ، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه ، ومع ذلك فلم يحب أن يهراق بسببه دم مسلم ، ولا يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراقه دم مسلم ، وكذا قال رضي الله عنه . فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقا معذورا رشيدا ، وكان الصحابة رضي الله عنهم في عذر ، وشقي قاتله . [ ص: 1984 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية