الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ( فصل ) : وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم مشيئة ، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وأقوالهم وأعمالهم ، وهو تعالى الذي منحهم إياها وأقدرهم عليها ، وجعلها قائمة بهم مضافة إليهم حقيقة ، وبحسبها كلفوا عليها يثابون ويعاقبون ، ولم يكلفهم الله تعالى إلا وسعهم ولم يحملهم إلا طاقتهم ، [ ص: 941 ] وقد أثبت الله تعالى ذلك لهم في الكتاب والسنة ، ووصفهم به ، ثم أخبر تعالى أنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله تعالى عليه ، ولا يشاءون إلا أن يشاء الله - عز وجل ، ولا يفعلون إلا بجعله إياهم فاعلين ، كما جمع تعالى بين ذلك في غير ما موضع من كتابه كقوله - عز وجل : ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) ، ( الأعراف 178 ) ، وقال تعالى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ) ، ( المزمل 19 ) ، وقال تعالى : ( إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) ، ( التكوير 27 - 29 ) وقال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، ( البقرة 286 ) الآية ، وقال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) ، ( الطلاق 7 ) ، وقال تعالى : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، ( الزخرف 72 ) أي بسببه ، وقال تعالى : ( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) ، ( السجدة 24 ) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : باب ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، ( الأعراف 43 ) ، ( لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) ، ( الزمر 57 ) ، حدثنا أبو النعمان ، أخبرنا جرير هو ابن حازم ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ينقل معنا التراب ، وهو يقول : والله ، لولا الله ما اهتدينا ، ولا صمنا ولا صلينا ، فأنزلن سكينة علينا ، وثبت الأقدام إن لاقينا ، والمشركون قد بغوا علينا ، إذا أرادوا فتنة أبينا .

      [ ص: 942 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحمر : ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ، ( الزلزلة 7 - 8 ) وغير ذلك ما لا يحصى ، وقد تقدم منها جملة وافية في إثبات الإرادة والمشيئة والخلق ، فكما لم يوجد العباد أنفسهم ، لم يوجدوا أفعالهم ، فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم تبع لقدرة الله - سبحانه - وإرادته ومشيئته وأفعاله ، إذ هو تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم ، وليس مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله تعالى وإرادته وقدرته وفعله ، كما ليسوا هم إياه تعالى الله عن ذلك ، بل أفعالهم المخلوقة لله قائمة بهم لائقة بهم مضافة إليهم حقيقة ، وهي من آثار أفعال الله تعالى القائمة به اللائقة به المضافة إليه حقيقة ، فالله فاعل حقيقة والعبد منفعل حقيقة ، والله تعالى هاد حقيقة ، والعبد مهتد حقيقة ، ولهذا أضاف تعالى كلا من الفعلين إلى من قام به فقال - عز وجل : ( من يهد الله فهو المهتد ) ، ( الإسراء 97 ) ، فإضافة الهداية إلى الله تعالى حقيقة ، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة ، وكما أن الهادي تعالى ليس هو عين المهتدي ، فكذلك ليست الهداية هي عين الاهتداء ، وكذلك يضل الله تعالى من يشاء حقيقة ، وذلك العبد يكون ضالا حقيقة ، وهو سبحانه وتعالى خالق المؤمن وإيمانه ، والكافر وكفره كما قال - جل وعلا : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ) ، ( التغابن 2 ) أي هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك كونا لا شرعا ، فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد على أعمال عباده وسيجزيهم بها أتم الجزاء ، ولهذا قال تعالى : ( والله بما تعملون بصير ) فأضاف الله تعالى الخلق الذي هو فعله القائم به إليه حقيقة ، وأضاف الإيمان والكفر الذي هو عملهم القائم بهم إليهم حقيقة ، والله - تبارك وتعالى - هو الذي جعلهم كذلك ، وهم فعلوه باختيارهم وقدرتهم ومشيئتهم التي منحهم الله إياها ، وخلقها فيهم ، وأمرهم ونهاهم بحسبها .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية