الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 961 ] ذكر أقوال الصحابة في هذا الباب .

      تقدم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر ، وقول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت لابن الديلمي ، ووصية عبادة بن الصامت لابنه .

      وروى عبد الله بن أحمد ، عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، ثم قال : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . وله عنه فكتب فيما كتب ( تبت يدا أبي لهب ) ، ( المسد 1 ) . وله عنه قال : أخرج الله ذرية آدم من ظهره مثل الذر فسماهم ، قال هذا فلان وهذا فلان ، ثم قبض قبضتين فقال للتي في يمينه : ادخلوا الجنة . وقال للتي في يده الأخرى : ادخلوا النار ولا أبالي .

      وله عنه قال : إن الرجل ليمشي في الأسواق ، وإن اسمه لفي الموتى . وله عنه ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، ( الرعد 39 ) قال : إلا الشقاوة والسعادة ، والحياة والموت .

      وله عنه : إن أول ما خلق القلم ، فأمره أن يكتب ما يريده أن يخلق ، فالكتاب [ ص: 962 ] عنده ، ثم قرأ ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ، ( الزخرف 4 ) .

      وله عن عكرمة قال : سئل ابن عباس ، كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال : إن سليمان نزل منزلا ، فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد مهندسا ، قال : فأراد أن يسأله عن الماء ففقده . قلت : وكيف يكون مهندسا ، والصبي ينصب له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر حال دون البصر .

      وله عن أبي الزبير أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت ، فمر بمعبد الجهني ، فقال قائل لطاوس : هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر ، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه ، فقال : أنت المفتري على الله ، القائل ما لا تعلم ؟ قال معبد : يكذب علي . قال أبو الزبير : فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس ، فقال له طاوس : يا أبا عباس ، الذين يقولون في القدر ؟ فقال ابن عباس : أروني بعضهم . قال : قلنا صانع ماذا ؟ قال : إذن أجعل يدي في رأسه ، ثم أدق عنقه .

      وله عنه قال : ليس قوم أبغض إلي من القدرية ، إنهم لا يعلمون قدرة الله ، إن الله تعالى قال : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ، ( الأنبياء 23 ) .

      وله عن طاوس قال : كنت مع ابن عباس في حلقة ، قال : فذكروا أهل القدر ، قال فقال : أفي الحلقة منهم أحد فآخذ برأسه ، ثم أقرأ عليه ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) ، ( الإسراء 4 ) ، وأقرأ عليه آية كذا وآية كذا . وله عنه وذكر عنده القدرية ، قال فقال : لو رأيت أحدا منهم لعضضت أنفه .

      [ ص: 963 ] وله عنه قال : الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن آمن وكذب بالقدر ، فهو نقض للتوحيد . وفي لفظ : فمن وحد وكذب بالقدر ، فقد نقض التوحيد .

      وله عن أبي يحيى مولى ابن عفراء قال : أتيت ابن عباس ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر أو ينكرونه ، فقلت : يا ابن عباس ، ما تقول في القدر لو أن هؤلاء أتوك يسألونك - وقال مرة - يسألونك عن القدر ، إن زنى وإن سرق أو شرب ؟ فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه ، وقال : يا أبا يحيى ، لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به ، والله لو أعلم أنك منهم أو هذين معك لجاهدتهم ، إن زنى فبقدر ، وإن سرق فبقدر ، وإن شرب الخمر فبقدر .

      وروى إسحاق بن الملائي عنه في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ( الأعراف 172 ) قال : إن الله تعالى أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه ، وكتب رزقه ، وأجله ومصيباته ، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر ، فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم ، وكتب رزقهم وأجلهم ومصيباتهم .

      وفي تفسير أسباط ، عن السدي ، عن أصحابه أبي مالك وأبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ( الأعراف 172 ) الآية ، قال : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء ، مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ، فقال [ ص: 964 ] لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ولا أبالي . فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، ثم أخذ منهم الميثاق فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية ، فقال : هو والملائكة ( شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) ، ( الأعراف 172 ) الآية ، فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه ، ولا مشرك إلا وهو يقول ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ، ( الزخرف 23 ) ، فذلك قوله - عز وجل : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ( الأعراف 172 ) ، وذلك حين يقول تعالى : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، ( آل عمران 83 ) ، وذلك حين يقول : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، ( الأنعام 149 ) قال : يعني يوم الميثاق . وعن مقسم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) ، ( الجاثية 29 ) قال : تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم ، فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب . وعنه - رضي الله عنه - قال : كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ، ثم بعث الحفظة على آدم وذريته ، وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد ، ثم قرأ ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) ، ( الجاثية 29 ) وفي تفسير الضحاك عنه - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات ، تنزل من السماء كل غداة وعشية ، ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة : الذي يقتل ، والذي يغرق ، والذي يقع من فوق بيت ، والذي يتردى من جبل ، والذي يقع ، والذي يحرق بالنار فيحفظون عليه ذلك كله ، وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء ، فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم .

      [ ص: 965 ] وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه : خلق الله الخلق قبضتين ، فقال لمن في يمينه : ادخلوا الجنة بسلام ، وقال لمن في يده الأخرى : ادخلوا النار ولا أبالي .

      ولعبد الله ابن الإمام أحمد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لا يزال أمر هذه الأمة قواما أو مقاربا ، ما لم يتكلموا في القدر . وله عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال حين طعن : ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) ، ( الأحزاب 38 ) .

      وله عن عبد الله بن الحارث الهاشمي قال : خطب عمر - رضي الله عنه - بالجابية ، وفي لفظ بالشام ، والجاثليق ماثل ، فتشهد فقال : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . فقال الجاثليق بقميصه هكذا - يعني : نفضه ، وقال : إن الله لا يضل أحدا . فقال : ما يقول ؟ فقالوا ما قال . فقال : كذبت عدو الله ، الله خلقك ، والله أضلك ، ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء الله ، والله ، لولا عقد لك لضربت عنقك ، ثم قال : إن الله خلق آدم فنثر ذريته في يديه ، ثم كتب أهل الجنة وما هم عاملون ، وكتب أهل النار وما هم عاملون ، ثم قال : هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه . قال : فتصدع الناس وما يتنازع في القدر .

      [ ص: 966 ] وقال علي - رضي الله عنه : ما من آدمي إلا ومعه ملك يقيه ما لم يقدر له ، فإذا جاء القدر خلاه وإياه . وله عنه - رضي الله عنه - قال : وذكر عنده القدر يوما ، فأدخل إصبعه السبابة والوسطى في فيه ، فرقم بهما باطن يديه فقال : أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب .

      وله عن أسير بن جابر قال : طلبت عليا في منزله فلم أجده ، فنظرت فإذا هو في ناحية المسجد . قال فقلت له - كأنه خوفه - قال فقال : إيه ليس أحد إلا ومعه ملك يدفع عنه ما لم ينزل القدر ، فإذا نزل القدر ، لم يغن شيئا .

      وله عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وقال له رجل : إنا نسافر فنلقى قوما يقولون : لا قدر . قال : إذا لقيت أولئك ، فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه برآء ثلاث مرات .

      ولعبد الرزاق ، عن يحيى بن يعمر قال : قلت لابن عمر : إن أناسا عندنا يقولون : الخير والشر بقدر ، وناسا عندنا يقولون : الخير بقدر والشر ليس بقدر . فقال ابن عمر : إذا رجعت إليهم ، فقل لهم : إن ابن عمر يقول إنه منكم بريء وأنتم منه برآء .

      ولعبد الله بن أحمد عنه - رضي الله عنه - قال : من زعم أن مع الله بارئا أو قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا بعثه الله يوم القيامة ، فأخرسه وأعمى بصره ، وجعل عمله هباء منثورا ، وقطع به الأسباب ، وكبه على وجهه في النار .

      [ ص: 967 ] وله عن نافع قال : قيل لابن عمر : إن قوما يقولون لا قدر . فقال : أولئك القدريون ، أولئك مجوس هذه الأمة . وله عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : مضت الكتب وجفت الأقلام ، فشقي أو سعيد ، فريق في الجنة وفريق في السعير .

      وله عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - قال : رفع الكتاب وجفت الأقلام ، وأمور تقضى في كتاب قد خلا . وفي رواية قضي القضاء وجف القلم وأمور تكفي في كتاب قد خلا . وله عنه - رضي الله عنه - قال : سيكون ناس يصدقون بقدر ويكذبون بقدر ، فيلعنهم أبو هريرة عند قوله هذا . وله عن عمار مولى بني هاشم قال : سألت أبا هريرة - رضي الله عنه - عن القدر فقال : اكتفي بآخر سورة الفتح .

      وله عن أبي الحجاج الأزدي ، عن سليمان - رضي الله عنه - قال : لقيته بماء سبذان ، قال فقلت له : أخبرني كيف الإيمان بالقدر ؟ قال : أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولا تقل : لو كان كذا لكان كذا ، ولو نفعل كذا لكان كذا .

      وروى عبد الرزاق ، عن معمر قال : قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري : وددت أني وجدت من أخاصم إليه ربي . فقال أبو موسى : أنا . فقال [ ص: 968 ] عمرو بن العاص : أيقدر علي شيئا يعذبني عليه ؟ فقال أبو موسى : نعم . قال : لم ؟ قال : لأنه لا يظلمك . فقال عمرو : صدقت .

      وله عن ابن الديلمي ، سألت عبد الله بن عمرو عن " جف القلم " ، فقال : إن الله حين خلق الخلق ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه شيء منه اهتدى .

      وكلام الصحابة في هذا الباب يطول ذكره ، وقد جمعت فيه التصانيف الكثيرة .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية