الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أقام سبحانه الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب الذي كانوا يستفتحون بالآتي به أقام دليلا آخر على ذلك أبين منه وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال : وإذا قيل لهم أي : هؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم ، آمنوا بما أنـزل الله أي : الملك الذي له [ ص: 47 ] الأمر كله مطلقا ، وعلى جهة العموم من الكتب والصحف .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما رفع مقدارهم بالدعاء إلى الإيمان بما أسند إلى هذا الاسم الأعظم ، قالوا تسفيلا لأنفسهم ، نؤمن بما أنـزل علينا فأسقطوا اسم من يتشرف بذكره ويتبرك باسمه وخصوا بعض ما أنزله ، ثم عجب من دعواهم هذه بقوله : ويكفرون أي : قالوا ذلك ، والحال أنهم يكفرون بما وراءه أي : وراء ما أنزل عليهم مما أنزل الله على رسله ، وهو يشمل ما قبل التوراة وما بعدها ، لأن وراء يراد بها تارة خلف وتارة قدام ، فإذا قلت : زيد ورائي ، صح أن يراد في المكان الذي أواريه أنا بالنسبة إلى من خلفي فيكون أمامي ، وأن يراد في المكان الذي هو متوار عني فيكون خلفي . وقال الحرالي : وراء ما لا يناله الحس ولا العلم حيث ما كان من المكان ، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء من حيث إنه [ ص: 48 ] لا يعلم ويكون أماما في المكان ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو أي : والحال أن ذلك الذي وراءه هو : الحق الواصل إلى أقصى غاياته بما دلت عليه "أل" ، قال الحرالي : فأنهاه لغاية الحق بكلمة "ال" لأن ما ثبت ولا زوال له لانتهائه هو : "الحق" ، وما ثبت وقتا ما ثم يتعقبه تكملة أو يقبل زيادة فإنما هو "حق" منكر اللفظ ، فإن بين المعروف بكلمة "ال" وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      مصدقا لما معهم فصح أنهم كافرون بما عندهم ، لأن المكذب بالمصدق لشيء مكذب بذلك الشيء . [ ص: 49 ] ثم كشف ستر مقالتهم هذه بأبين نقض فقال : قل فلم أي : تسبب عن دعواكم هذه أن يقال لكم : لم تقتلون أنبياء الله الملك الأعظم مع أن كتابكم محرم لمطلق القتل فكيف بقتل الأنبياء ! ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم بقوله مثبتا الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان الماضية : من قبل وفي صيغة المضارع تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم ، لأن التقدير : وتصرون على قتلهم من بعد ; وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرا منهم ، ولقد صدق هذا الإيماء الواقع ، فقد عزم بنو النضير على أن يلقوا عليه صخرة ، وسمه أهل خيبر ، ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك فقال : إن كنتم مؤمنين إشعارا بأن مثل ذلك [ ص: 50 ] لا يصدر من متلبس بالإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية