الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة ؟ قال نعم.

                                                              إذا عرف هذا فاحتج المانعون بوجوه.

                                                              أحدها: الحديث.

                                                              والثاني: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه.

                                                              والثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، وهذا غير مضمون عليه؛ لأنه في ذمة المسلم إليه.

                                                              والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه، فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتوالى في المبيع ضمانان.

                                                              الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.

                                                              هذا جملة ما احتجوا به.

                                                              قال المجوزون: الصواب جواز هذا العقد.

                                                              والكلام معكم في مقامين.

                                                              [ ص: 486 ] أحدهما: في الاستدلال على جوازه.

                                                              والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع.

                                                              فأما الأول: فنقول: قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال " إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين " رواه شعبة.

                                                              فهذا قول صحابي، وهو حجة ما لم يخالف.

                                                              قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير ؟ فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء "، فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه بجنس آخر.

                                                              فما [ ص: 487 ] الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره ؟

                                                              قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره، وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس بن تيمية رحمه الله عنه.

                                                              والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا لأنه دين فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين.

                                                              أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.

                                                              والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه، فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يجوز بيعه من غير المستسلف.

                                                              والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر والقياس التسوية بينهما.

                                                              وأما المقام الثاني فقالوا: أما الحديث فالجواب عنه من وجهين.

                                                              أحدهما: ضعفه كما تقدم.

                                                              والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر، أو يبيعه بمعين مؤجل؛ لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه، وأما بيعه بعرض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في [ ص: 488 ] حديث ابن عمر.

                                                              فالذي نهى عنه من ذلك: هو من جنس ما نهى عنه من بيع الكالئ بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.

                                                              وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في الطعام المعين، أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.

                                                              وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته: سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضا أو غيره أسقط ما في ذمته.

                                                              فكان كالمستوفي دينه؛ لأن بدله يقوم مقامه.

                                                              ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.

                                                              والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه.

                                                              وهنا لم يملك شيئا، بل سقط الدين من ذمته.

                                                              ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع.

                                                              ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا.

                                                              وفي الدين إذا وفاها [ ص: 489 ] بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة.

                                                              ولو حلف ليقضينه حقه غدا، فأعطاه عنه عرضا، بر في أصح الوجهين.

                                                              وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد بيعه من غير بائعه.

                                                              وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان.

                                                              وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع بحيث ينقطع طمعه في الفسخ، ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض، إذا رأى المشتري قد ربح فيه لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه.

                                                              وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه، وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين.

                                                              وأي محذور في هذا ؟ كمنافع الإجارة.

                                                              فإن المستأجر له أن يؤاجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدو صلاحها له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه ونظائره كثيرة.

                                                              وأيضا فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحيح.

                                                              [ ص: 490 ] وأيضا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.

                                                              فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان.

                                                              فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا بخلاف الإقالة في الأعيان.

                                                              ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وقال " أحسب كل شيء بمنزلة الطعام "، ومع هذا فقد ثبت عنه أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه.

                                                              ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما.

                                                              لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته فتبرأ ذمته، وبراءة الذمم مطلوب في نظر الشرع، لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي، لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه ؟ وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه. ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة.

                                                              ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.

                                                              قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس " خذ عرضا بأنقص منه، [ ص: 491 ] ولا تربح مرتين "، فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة " لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها "، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.

                                                              وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل القرض وغيره من الديون أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.

                                                              وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثني الطعام خاصة؛ لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز بخلاف غيره.

                                                              وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه، وبين أن يعتاض بمكيل أو موزون.

                                                              فإن كان بعرض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون، فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض، إذ كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين.

                                                              ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه، كالشعير عن الحنطة، نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة، كما يستوفى الجيد عن الرديء.

                                                              ففي العرض جوز المعاوضة، إذ لا يشترط هناك تقابض.

                                                              وفي المكيل والموزون: منع المعاوضة، لأجل التقابض، وجوز أخذ قدر حقه أو دونه. لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.

                                                              [ ص: 492 ] قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين.

                                                              أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال؛ لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع ؟ بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ فيتوالى ضمانان.

                                                              الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها.

                                                              وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف ؟ وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين ؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.

                                                              وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين.

                                                              وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة، ولا فرق بينه وبين دين السلم.

                                                              قالوا: وأيضا فالمبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري.

                                                              فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك.

                                                              وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، مع هذا يجوز التصرف فيها.

                                                              ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.

                                                              [ ص: 493 ] قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع، فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس ؟ فثبت أنه لا نص في التحريم، ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية