الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فروع سبعة :

                                                                                                                الأول : قال في الكتاب : الخط باطل وهو قول جمهور الفقهاء ، وجوزه ابن حنبل إذا لم يجد غيره ، وأشهب في العتبية ، وللشافعي قولان لما في أبي داود قال عليه السلام : إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصاه ، فإن لم يكن معه فليخطط خطا ، ثم لا يضره ما مر [ ص: 155 ] أمامه ، وهو مطعون عليه جدا ، والنظر يرده ; لأنه لا يسمى سترة ولا يراه المار فيتحرز بسببه . قال صاحب النوادر : والحفرة والنهر وكل ما لا ينصب قائما كالخط ليس بسترة . واختلف في صورة الخط : فقيل من القبلة إلى دبرها ، وقيل بالضد وهو قول أحمد ، وقيل قوس كهيئة المحاريب .

                                                                                                                الثاني : قال في الكتاب : لا بأس أن يصلي المسافر إلى غير سترة ، وأما في الحضر فلا ، قال ابن القاسم : إلا أن يأمن المرور ، وروى أشهب في العتبية الاستتار مع الأمن .

                                                                                                                حجة الأول : ما في الصحيحين أنه - عليه السلام - قال : إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي ما يمر وراء ذلك . وهو يدل على أن السترة لأجل المرور فحيث لا مرور لا يشرع .

                                                                                                                حجة الثاني : ما في أبي داود أنه - عليه السلام - قال : إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ، لا يقطع الشيطان عليه صلاته . والشيطان في كل موضع . والحديث مضطرب الإسناد ، واختلف في هذا الشيطان فقيل : هو الموسوس فيمنعه القرب من السترة كما يمنعه غلق الباب من الدخول ، والعوذ [ ص: 156 ] من الأواني ، والبسملة من الطعام ، وقيل هو المار ويعضد الأول ما في البخاري ، صلى - عليه السلام - بالناس بمنى إلى غير جدار .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                روى ابن القاسم في المجموعة : إذا صلى على مكان عال ، فإن غابت عنه رءوس المارين ، وإلا عمل سترة في السطوح .

                                                                                                                الثالث : قال في الكتاب : يجوز للمسبوق أن يتقدم أو يتأخر ويتيامن ويتياسر لسارية يستتر بها ; لأن ذلك أخف من مدافعته للناس ، قال صاحب الطراز : ذلك إذا كانت قريبة .

                                                                                                                الرابع : قال في الكتاب : السترة قدر مؤخرة الرحل في جلة الرمح والحربة نحو عظم الذراع ، وجلة الرمح أحب إلي . واستحب طول الرمح أو الحربة لما في البخاري كان - عليه السلام - إذا خرج يوم العيد يأمر بالحربة توضع بين يديه فيصلي إليها والناس خلفه ، وكان يفعل ذلك في السفر ، وفي الفيافي قال ابن حبيب : لا بأس لها دون مؤخرة الرحل في الطول ودون جلة الرمح في الغلظ ، وقد كانت العنزة التي كانت تركز له - عليه السلام - دون الرمح في الغلظ وإنما يكره من ذلك ما كان رقيقا جدا . وفي التنبيهات مؤخرة الرحل بفتح الخاء وبالواو ، ويقال آخرة الرحل وهو العود الذي خلف الراكب ، وجلة الرمح بكسر الجيم وتشديد اللام أي : غلظه ، والعنزة : الرمح القصير ، قال [ ص: 157 ] صاحب الطراز : إذا سقطت الحربة ، قال مالك : يقيمها إن كان ذلك خفيفا - كان جالسا أو قائما - فينحط لها كما ينحط للحجر ; ليقتل العقرب ، وكره السوط في الكتاب ; لأنه إن كان مطروحا فليس بسترة كالخط ، أو قائما فلا يؤبه له ، بخلاف القلنسوة العالية والوسادة ، قاله مالك ، وكذلك الحيوان الطاهر الروث جوزه في العتبية بخلاف الخيل والبغال والحمير ، وجوز أيضا الاستتار بظهر الرجل ، وتردد قوله في جنبه ومنع وجهه ، وجوز السترة بالصبي إذا استقر بخلاف المرأة ولو كانت أمه أو أخته ، وفي الجلاب لا يستتر بامرأة إلا أن تكون من محارمه ، قال أبو الطاهر : لا يستتر بمرحاض ونحوه ، ولا بنائم ، ولا بمجنون ، ولا مأيون في دبره . وحكاه المازري عن ابن القاسم وزاد الكافر ، قال : ويختلف إذا كان وراء السترة رجل يتحدث ، ومنع في الكتاب من الصلاة الحجر المنفرد بخلاف الحجارة المجتمعة لشبهه بالصنم ، والمنع من القيام لاحتمال الانكشاف ، وفي الجلاب المنع من حلق المتكلمين في الفقه وغيره ; لما فيه من شغل البال بخلاف الطائفين بالبيت ، لما في أبي داود أنه - عليه السلام - صلى مما يلي باب بني سهم فالناس يمرون بين يديه ، ولأن الطواف بالبيت صلاة ، قال صاحب القبس : ولا يجعل السترة قبالة وجهه ; لحديث المقداد ما رأيته - عليه السلام - صلى إلى شيء يصمد إليه صمدا إنما كان يجعله على يمينه أو على يساره ، قال : ولا يتقدم من سترته كثيرا حتى إذا أراد أن يسجد تأخر ، وقد رأيت بعض الغافلين ممن ينتصب للتعليم يفعله وهو جهالة ; لأنه عمل في الصلاة ، وقال أبو الطاهر : اختلفت الأحاديث في الذي كان بينه - عليه السلام - وبين سترته فروى بلال : ثلاثة أذرع ، وروى سهل بن سعد ممر الشاة ، واختلف في الجمع فحمل أكثر الأشياخ الأول على حالة القيام ، والثاني على [ ص: 158 ] مقدار ما يتقى حالة السجود ، وروى أبو الطيب بن خلدون أنه يحمل على أنه - عليه السلام - كان إذا وقف ، قرب من سترته بالمقدار الثاني ، فإذا أراد الركوع بعد منها بالمقدار الأول ، وكان أبو الطيب هذا يفعله ، ويرى أنه عمل يسير للإصلاح ; لأن الدنو من السترة أجمع للقلب ، قال صاحب الطراز : لا حد للقرب من السترة لكنه مأمور به ، وحده الشافعي ، وابن حنبل ثلاثة أذرع ; لأنه - عليه السلام - لما صلى في الكعبة كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع ، قال : وليس فيه دليل ; لأن الصلاة في الكعبة لا تحتاج إلى سترة ، قال : وكان مالك يصلي يوما بعيدا من سترته فمر به رجل لا يعرفه فقال : أيها المصلي ادن من سترتك فجعل مالك يتقدم ، ويقول : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) .

                                                                                                                الخامس : قال في الكتاب : لا أكره المرور بين الصفوف والإمام يصلي ; لأنه سترة لهم ، قال : وكان سعد بن أبي وقاص يمشي بين الصفوف عرضا حتى يصل إلى الصلاة ، وكذلك كل من عرض له عارض يمشي عرضا لما في الموطأ ، قال ابن عباس : أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي بعض الصفوف ، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي [ ص: 159 ] أحد . ويؤكده وجهان أحدهما : أن المأموم لا يوجب سهوه سجودا ، فكذلك خلل المأموم إذا اختص به لا يوجب خللا في الصلاة . وثانيهما : أن الجماعة لا يحتاج كل واحد منهم إلى سترة إجماعا فكانت سترة الإمام سترة لهم ، فإن لم يمر أحد بين الإمام وسترته كانت سترتهم سالمة عن الخلل فلا يضرهم ذلك ، مع أن أبا الطاهر قد حكى الخلاف في سترة الجماعة : هل هي سترة للإمام ؟ فإذا وقع فيها خلل وقع في سترتهم ، أو هي للإمام فلا يضرهم الخلل في سترته ؟ ولفظ الكتاب كما سمعته : والإمام سترة لهم .

                                                                                                                السادس : قال في الكتاب : لا يقطع الصلاة شيء يمر بين يدي المصلي . وهو قول ( ش ) و ( ح ) وجمهور الفقهاء ، وقال ابن حنبل : يقطعها الكلب الأسود وفي نفسي من المرأة والحمار شيء ، محتجا بما في مسلم : إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل ، فإن لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود ، قال أبو ذر : سألت النبي - عليه السلام - فقال : الكلب الأسود شيطان . وزاد أبو داود الخنزير واليهودي والمجوسي . لنا ما في الصحيحين أن عائشة - رضي الله عنها - قالت : شبهتمونا بالحمير والكلاب ، لقد رأيته - عليه السلام - يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة منضجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس [ ص: 160 ] فأوذيه - عليه السلام - فأنسل من عند رجليه . وفي الموطأ قال علي بن أبي طالب ، وابن عمر رضي الله عنهم : لا يقطع الصلاة شيء . فيترجح ما ذكرناه بعمل الصحابة ، وبالقياس على الهوام والطيور أو يجمع بحمل القطع على قطع الإقبال على الصلاة بسبب الفكرة في المار ، لا على الإبطال .

                                                                                                                السابع : قال في الكتاب : لا يتناول أحد شيئا من بين يدي المصلي ; لأنه بمنزلة المرور لاشتراكهما في قلة احترام الصلاة ، أو في اشتغال المصلي عنها ، وكره في المجموعة أن يتكلم رجل عن يمينه مع رجل عن يساره لما فيه من قلة الاحترام ، قال في الكتاب : فإن كان المصلي هو المناول لغيره ، منع أيضا ; لأن العين المتناولة تمر بين يديه وتشغله عن الصلاة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية