الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 142 ) حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي ، وزكريا بن يحيى الساجي ، قالا : ثنا هارون بن موسى الفروي ، ثنا إسحاق بن محمد الفروي ، ثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، وعبيد الله بن عمر ، جميعا عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله من ذلك ، وكل قد حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأحسن اقتصاصا وبعضهم يصدق حديث بعض ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه ، حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت [ ص: 84 ] حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فالتمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أنني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يهبلهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه داع ولا مجيب ، فيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني ، وكان يراني قبل نزول الحجاب ، فما استيقظت إلا باسترجاعه حين رآني ، فوالله ما كلمني ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، ثم أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أراه منه حين أمرض ، إنما يدخل علي فيسلم ، ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " ، فذلك يريبني ولا أشعر ، حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم قبل المناصع ، وهي متبرزنا لا نخرج إلا من ليل إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز ، وأقبلت أنا وأم مسطح نمشي [ ص: 85 ] فعثرت في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ ، فقالت : يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ ، قلت : وماذا قال ؟ ، فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله ، فقال : " كيف تيكم ؟ " ، قلت : ائذن لي إلى أبوي ، قلت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأتيت أبوي ، فقلت لأمي : ما تحدث به الناس ؟ ، قالت : يا بنية هوني على نفسك ، فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ، وقد تحدث الناس بهذا ؟ ، قالت : فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، حتى أصبحت فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعرف من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم ، فقال أسامة : أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال لها : " هل علمت من عائشة شيئا يريبك ؟ " ، فقالت بريرة : لا ، والذي بعثك بالحق ، ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن العجين حتى تأتي الداجن فتأكله ، قالت : فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " ، [ ص: 86 ] فقام سعد بن معاذ ، فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن أجهلته الحمية ، فقال : كذبت لعمر الله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ليقتلنه ، وإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا بالقتال ، ورسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي ، فبينا أنا على ذلك إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله فجلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهد ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه " ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته ، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، قال : ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي ، قالت مثل ذلك ، فقلت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : والله لقد علمت أنكم قد سمعتم ما تحدث به وقر في أنفسكم وصدقتم ، ولئن قلت إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم الله أني منه بريئة لتصدقني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أبو يوسف إذ قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، قالت : ثم تحولت على [ ص: 87 ] فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله ببراءتي ، ولكن ما طمعت أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولأنا كنت أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله ، قالت : فوالله ما رام رسول الله من مجلسه ، ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل الله عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات ، قالت : فسري عن رسول الله وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : " يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله " ، فقلت : بحمد الله لا بحمدكم ، فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله ، فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله ، فأنزل الله عز وجل : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآيات كلها ، فلما أنزل الله براءتي ، قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله عز وجل : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى آخر الآية ، فقال أبو بكر : بلى إني أحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه ، قالت : وكان رسول الله سأل زينب بنت جحش ، عن أمري فقال : " يا زينب ما علمت وما رأيت ؟ " ، فقالت : أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعصمها بالورع ، فطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب عنها فهلكت فيمن هلك ، قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا من حديث هؤلاء الرهط .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية