الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5039 5354 - حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن سعد - رضي الله عنه – قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: "لا". قلت: فالشطر؟ قال: "لا". قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة، يتكففون الناس في أيديهم، ومهما أنفقت فهو لك صدقة حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك، ولعل الله يرفعك، ينتفع بك ناس ويضر بك آخرون". [انظر: 56 - مسلم: 1628 - فتح: 9 \ 497].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              النفقات: جمع نفقة، من الإنفاق، وهو الإخراج. واختلف السلف في تأويل هذه الآية، فروي عن أكثر السلف، كما قاله ابن بطال أن المراد بذلك صدقة التطوع، روي ذلك عن القاسم وسالم، وقالا: العفو: فضل المال، ما تصدق به عن ظهر غنى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: لا تنفق حتى تجهد مالك، فتبقى تسأل الناس. وفي البخاري عنه: أنه الفضل . قال ابن التين: يريد ما سهل، ومنه: "أفضل الصدقة ما تصدق به عن ظهر غنى".

                                                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد: هو الصدقة المفروضة ، وهو غير ممتنع. كما قاله إسماعيل; لأن الذي يؤخذ في الزكاة قليل من كثير; ولأن ظاهر التفسير ومقصد الكلام يدل أنه في غير الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: والأول أبين. يعني قول الحسن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 11 ] وقوله: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة [البقرة: 219، 220]، أي: تتفكرون فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا. وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون، قال بعضهم: كل إنفاق في القرآن هو صدقة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزجاج: أمر الناس أن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه كل يوم ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما ينفقونه في عامهم وينفقون باقيه. روي هذا في التفسير.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر البخاري -كما حكاه عنه ابن بطال- أن الآية عامة في النفقة على الأهل وغيرهم; لأن الرجل لا تلزمه النفقة على أهله إلا بعد ما يعيش به نفسه، وكان ذلك عن فضل قوته.

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء في الحديث عن الشارع في أحاديث الباب -كما ستعلمها- أن نفقة الرجل على أهله صدقة، فلذلك ترجم بالآية في النفقة على الأهل .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق في الباب أربعة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أنفق المسلم على أهله نفقة وهو يحتسبها، كانت له صدقة".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك". وهو من أفراده.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 12 ] ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديثه أيضا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الليل الصائم النهار". أخرجه في الأدب ومسلم والأربعة .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: حديث سعد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض بمكة .. الحديث وقد سلف وفي آخره: "ومهما أنفقت فهو لك صدقة حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك، ولعل الله يرفعك، ينتفع بك أناس ويضر بك آخرون".

                                                                                                                                                                                                                              وفي مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "دينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك - قال: والدينار الذي أنفقته على أهلك أعظم أجرا" .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث ثوبان - رضي الله عنه -: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي البيهقي بإسناد جيد من حديث أنس: "إن كان الرجل يسعى على عياله يكفيهم فهو في سبيل الله تعالى" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 13 ] ووجه حديث أبي مسعود وسعد - وكيف يكون إطعام أهله صدقة وهو فرض عليه؟! أن الله تعالى جعل من الصدقة فرضا وتطوعا، ومعلوم أن أداء الفرض أفضل من التطوع، فإذا كان عند الرجل قدر قوته ولا فضل فيه عن قوت نفسه، وبه إليه حاجة، وهو خائف بإيثاره غيره به على نفسه هلاكا كائنا من كان غيره الذي حاجته إليه مثل حاجته، والدا كان أو ولدا أو زوجة أو خادما، فالواجب عليه أن يحيي به نفسه، وإن كان فيه فضل كان عليه صرفه إلى غيره ممن فرض الله نفقته عليه، فإن كان فيه فضل عما يحيي به نفسه ونفوسهم وحضره ممن لم يوجب الله عليه نفقة، وهو متخوف عليه الهلاك إن لم يصرف ذلك إليه، كان له صرفه إليه بثمن أو قيمة، وإن كان في سعة وكفاية لم يخف على نفسه ولا على أحد ممن يلزمه نفقته، فالواجب عليه أن يبدأ بحق من أوجب الله حقه في ماله، ثم الأمر إليه في الفضل من ماله إن شاء تطوع بالصدقة به وإن شاء ادخره، وإذا كان المنفق على أهله إنما يؤدي فرضا لله واجبا، له فيه جزيل الأجر، فذلك -إن شاء الله- معنى قوله: " (فيما) أنفقت" إلى آخره; لأن بفعله ذلك يؤدي فرضا لله هو أفضل من صدقة التطوع الذي يتصدق بها على غريب منه لا حق له في ماله. نبه عليه الطبري.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية