الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5350 5674 - حدثنا عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: سمعت عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مستند إلي يقول: " اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى". [انظر: 4440 - مسلم: 2444 - فتح 10 \ 127]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 317 ] أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم والأربعة في الدعوات .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث قيس بن أبي حازم، عن خباب، وعن أبيه، عنه: ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له فقال: إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب.

                                                                                                                                                                                                                              ويأتي في الدعوات والرقاق ، وأخرجه مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن يدخل أحدا عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 318 ] رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مستند إلي يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              في الباب - أيضا - عن جابر وأم الفضل، أخرج الأول: ابن أبي شيبة ، عن وكيع، عن كثير بن زيد، عن سلمة بن أبي زيد عنه مرفوعا: "لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة" .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرج الثاني: بقي بن مخلد، عن ابن رمح: ثنا الليث: ثنا ابن الهادي، عن هند - ابنة الحارث - عنها: أنه - عليه السلام - قال للعباس: "يا عم رسول الله لا تمن الموت، فإنك إن كنت محسنا فإن تؤخر تزدد إحسانا إلى إحسانك، وإن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعتب خيرا لك".

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله"، قال: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله"، ثم قال: حديث حسن صحيح . وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حكم الباب: فنهى - عليه السلام - أمته عن تمني الموت عند نزول البلاء بهم وأمرهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرا لهم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 319 ] وقد سلف في حديث أبي هريرة معللا، قيل: إنه منسوخ.

                                                                                                                                                                                                                              يقول يوسف - صلى الله عليه وسلم - : توفني مسلما [يوسف: 101] ويقول سليمان - صلى الله عليه وسلم - : وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [النمل: 19].

                                                                                                                                                                                                                              وبحديث الباب: ("وألحقني بالرفيق .. ") قالوا: ودعا عمر بالموت، وعمر بن عبد العزيز وليس كذلك; لأن هؤلاء، إنما سألوا ما قارن الموت، فالمراد بذلك ألحقنا بدرجاتهم، قلت: ولعل المراد إذا توفيتني فافعل ذلك، فهو دعاء لا تمن.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قوله: "وألحقني بالرفيق"، لأنه أخبر أن الأنبياء تخير، وقال ذلك عند التخيير وتحقق الوفاة في يومه; لمجيء الملائكة المبشرين له بلقاء ربه، وبما أعد له.

                                                                                                                                                                                                                              ألا ترى إلى قوله لفاطمة: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: الحديث جاء بلفظ (لعل) وهي موضوعة لغير التحقيق، قلت: هي في كلام الشارع كلفظ الباري تعالى، ثم إن في مسلم بلفظ (إن) التي موضوعة للتحقيق فزال ما توهم، وتمني عمر في إسناده علي بن زيد وهو ضعيف، رواه معمر عنه عن الحسن، عن سعيد بن أبي العاصي قال: رصدت عمر ليلة فخرج إلى البقيع - وذلك في السحر - فاتبعته فصلى ثم رفع يديه فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وخشيت الانتشار من رعيتي فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 320 ] قال الزهري: عن ابن المسيب: فما انسلخ الشهر حتى مات .

                                                                                                                                                                                                                              وتمناه علي - رضي الله عنه - أيضا، أخرجه معمر - أيضا - عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سمعت عليا - رضي الله عنه - يخطب، فقال: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني، فأرحني منهم وأرحهم مني ما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم وأشار إلى لحيته . وحملها الطبري على أنهما خشيا المصاب في الدين.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث (الشارع) على المصاب في الدنيا، ويشهد لصحة ذلك قوله: وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، فاستعمل عمر هذا المعنى حين خشي عند كبر سنه وضعف قوته أن يعجز عن القيام بما فرض عليه من أمر الأمة أو أن يفعل ما يلام عليه دنيا وأخرى.

                                                                                                                                                                                                                              فأجاب دعاءه. وكذا خشي علي من السآمة من الجهتين أن يحملهم على ما يئول إلى سخط الرب جل جلاله فكان ذلك من قبلهم فقتلوه وتقلدوا دمه، وباءوا بإثمه، وهو إمام عدل بر تقي لم يستحق منه ما يستحق عليه التأنيب فضلا عن غيره، فلذلك سأل الإراحة منهم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              مراد خباب البنيان الذي لا يحتاج إليه وبه صرح ابن بطال.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ومعنى الحديث: أن من بنى ما يكفيه ولا غنى به عنه فلا يدخل في معنى الحديث بل هو مما يؤجر فيه، وإنما أراد خباب من بناء ما يفضل عنه ولا يضطر إليه، فذلك الذي لا يؤجر عليه; لأنه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 321 ] من التكاثر الملهي لأهله. وسيأتي في الاستئذان في باب: البناء .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال ابن التين : المراد من يجاوز الكفاية وقصد المباهاة. أي كما قال في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "إذا تطاول رعاة رعاء الإبل البهم في البنيان" .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب). قال الداودي : يعني الموت إشفاقا أن ينقص ما نالوه من الدنيا حسناتهم، وليس ببين كما قاله ابن التين ، بل هو عبارة عن كثرة ما أصابوا من الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إلا أن يتغمدني الله برحمته") أي: يغمرني بها ويلبسني ويغشيني.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : ولا أحسبه إلا أخذ من غمد السيف فإنك إذا أغمدته فقد ألبسته الغمد .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فسددوا") أي: استقيموا والزموا الصواب، فإن قلت: كيف الجمع بين قوله: "لن يدخل أحدا عمله الجنة" وبين قوله: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت: من أوجه - ذكرها ابن الجوزي.

                                                                                                                                                                                                                              أولها: لولا رحمة الله السابقة التي كتب بها الإيمان في القلوب ووفق للطاعات ما نجا أحد ولا وقع عمل تحصل به النجاة، والتوفيق للعمل من رحمة الله تعالى أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 322 ] ثانيها: أن منافع (العبد) لسيده فعله مستحق لمولاه، فإن أنعم عليه بالجزاء فمن فضله، كالمكاتب مع المولى.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: روي في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة بالرحمة واغتنام الدرجات بالأعمال.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن عمل الطاعات كانت في زمن يسير وثوابها لا ينفد أبدا. فالمقام الذي لا ينفد في جزاء ما نفد بفضل الله لا بمقابلة الأعمال - وهذا نص - كما قال القرطبي - في الرد على أهل البدع والمعتزلة في قولهم في قاعدة التحسين والتقبيح .

                                                                                                                                                                                                                              وستكون لنا عودة إلى ذلك في باب القصد والمداومة على العمل في كتاب الرقاق.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: فلعله أن يستعتب أن يرجع عن الإساءة إلى الإحسان ويطلب الرضى.

                                                                                                                                                                                                                              يقال: استعتبته فأعتبني أي: عاد إلى مسرتي، فكذلك استرضيته فأرضاني.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، ومنه قوله: وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين [فصلت: 24]، وأعتب واستعتب بمعنى . ويقال: يبقى الرد ما بقي العتاب.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية