الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فأما بيان ميراث بني الأعيان فنقول إنهم يقومون مقام أولاد الصلب عند عدمهم في التوريث ذكورهم مقام ذكورهم ، وإناثهم مقام إناثهم حتى أن الأنثى منهم إذا كانت واحدة [ ص: 156 ] فلها النصف وللمثنى فصاعدا الثلثان ، وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى { وله أخت فلها نصف ما ترك } ، ثم قال عز وجل { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } كما في ميراث البنات إذا كن فوق اثنتين ولم يذكر ذلك هنا ونص على ميراث البنتين هنا ولم ينص عليه ثمة ليستدل بأحدهما على الآخر وللفرد منهم إذا كان ذكرا جميع المال ثبت بقوله تعالى { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } أي يرثها جميع المال ، وإن كثروا فالمال بينهم بالسوية اعتبارا بالأبناء وعند اختلاط الذكور بالإناث يكون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ثبت بقوله تعالى { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } كما هو في ميراث الأولاد وشيء من المعقول يدل عليه فالإرث خلافة مشروعة لمن يقوم مقام الميت عند استحقاقه عما يخلفه من المال بعد موته والخلافة إما بالمناسبة ، أو بالمواصلة ، أو بالقرابة وميراث بني العلات كميراث أولاد الابن على معنى أنهم عند عدم بني الأعيان يقوم ذكورهم مقام ذكورهم وإناثهم مقام إناثهم كأولاد الابن عند عدم أولاد الصلب فإنهم لا يرثون مع الذكر من بني الأعيان شيئا كما لا يرث أولاد الابن مع الابن حتى أن الأخت لأب لا ترث مع الأخ لأب وأم ولا تصير عصبة مع البنت إذا كان معها أخ لأب وأم بل يكون النصف للبنت والباقي للأخ لأب وأم ، ولا شيء للأخت لأب ، وإن كان بنو الأعيان إناثا مفردات فإن كانت واحدة فلها النصف ولبني العلات إذا كن إناثا مفردات السدس تكملة الثلثين ، وإن كانوا مختلطين فالباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين .

وعلى قول ابن مسعود رضي الله عنه ينظر للإناث منهم إلى المقاسمة وإلى السدس فلهن شرهما ، وإن كان بنو الأعيان بنتين من الإناث فصاعدا فلهما الثلثان ، ولا شيء للأخوات إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيما بقي .

وعلى قول ابن مسعود الباقي للذكر خاصة وهو نظير ما ذكرنا من مسائل الإضرار على قول ابن مسعود رضي الله عنه في أولاد الابن مع بنات الصلب ولا خلاف أنهم لا يرثون مع الأب شيئا إلا في رواية شاذة عن ابن عباس ، وقد بينا في توريثهم مع الجد اختلافا ظاهرا نبينه في موضعه ، ولا خلاف أنهم لا يرثون مع الابن شيئا لأن شرط تورثيهم أن يكون الميت هالكا قال الله تعالى { إن امرؤ هلك } ومن له ابن فليس بهالك ، وإنما يختلفون في توريثهم مع البنات ، وهذا الاختلاف في الإناث المفردات منهم دون الذكور حتى إن من مات وترك ابنة أو ابنتين وأخا لأب وأم ، أو لأب فللأخ ما بقي نصفا كان ، أو ثلثا ، وذلك ثابت بالسنة فقد قال عليه السلام { ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلأولى رجل ذكر } وأقرب رجل ذكر هو [ ص: 157 ] الأخ فأما إذا كان مع الابنة ، أو الابنتين أخت لأب وأم ، أو لأب فعلى قول عمر وعلي وزيد وابن مسعود ما بقي للأخت نصفا كان ، أو ثلثا .

وعلى قول ابن عباس لا شيء للأخت في هذه الحالة وأصله أن الأخوات يصرن عصبة مع البنات عند أكثر الصحابة وهو قول جمهور الفقهاء ، وعند ابن عباس رضي الله عنه لا يصرن عصبة واختلفت الرواية عنه فيما إذا اختلط الذكور بالإناث من الإخوة فروي عنه أن الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وهو الأصح من مذهبه وروي عنه أن الباقي كله للذكر فالأخت تصير عصبة مع البنت سواء كانت لأب وأم ، أو لأب إلا أنه إذا كان مع الأخت لأب أخ لأب وأم بأن ترك بنتا وأخا لأب وأم وأختا لأب فللبنت النصف والباقي للأخ لأب وأم ، ولا شيء للأخت لأب وكذلك إن كان هناك ابنة وأخت لأب وأم وأخ وأخت لأب فقد روي عنه أن الباقي كله للذكر والأظهر من مذهبه أن الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وعندنا الباقي كله للأخت لأب وأم وحجته ما روى معمر عن الزهري عن أبي مسلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن فريضة فيها ابنة وأخت فقال للابنة النصف ، ولا شيء للأخت فقلت قد كان عمر رضي الله عنه يقول للابنة النصف وللأخت ما بقي فغضب وقال أنتم أعلم أم الله قال الله تعالى { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت } قال الزهري فلم أفهم مراد ابن عباس حتى سألت عنه عطاء فقال مراده أن الله تعالى إنما جعل للأخت النصف بشرط عدم الولد ولم يجعل لها النصف مع الولد فإن اسم الولد حقيقة للذكر والأنثى جميعا .

( ألا ترى ) أن الله تعالى لما حجب الأم من الثلث إلى السدس بالولد استوى فيه الذكر والأنثى ولما حجب الزوج عن النصف إلى الربع والمرأة إلى الثمن من الربع بالولد استوى فيه الذكر والأنثى . فكذلك هنا شرط عدم الولد لتوريث الأخت فيستوي فيه الذكر والأنثى والدليل عليه أن الباقي بعد نصيب صاحب الفريضة يستحقه العصبة بالنسبة والأخ عصبة . فأما الأخت فليست بعصبة لأنها عند الانفراد لا تكون عصبة فعرفنا أنها ليست بعصبة في نفسها ، وإنما تعتبر عصبة بغيرها إذا كان ذلك الغير عصبة والابنة ليست بعصبة فلا يجوز أن يجعل عصبة معها .

ولو صار عصبة معها لشاركها في الميراث وبالإجماع لا يشاركها في نصيبها فعرفنا أنها ليست بعصبة أصلا إلا أن يخالطها ذكر فحينئذ تصير عصبة بالذكر وحجتنا في ذلك قوله تعالى { إن امرؤ هلك ليس له ولد } ومعناه ابن بدليل ما عطف عليه بقوله تعالى { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } فإن معناه بالاتفاق [ ص: 158 ] إن لم يكن لها ابن حتى إن الأخ يرث مع الابنة فإن قيل هما شرطان ذكر كل واحد منهما في حادثة على حدة فإن قام الدليل على أن المراد بأحدهما الذكر لا يتبين أن المراد بالثاني الذكر قلنا لا كذلك بل الكل شرط واحد لأنه ذكر أولا إذا كان الأخ هو الميت يجعل للميت النصف ، ثم قلت المسألة بجعل الأخت هي الميت والأخ هو الوارث وجعل له جميع المال فبهذا يتبين أن الشرط واحد وهو عدم الولد ، ثم المراد في أحد الموضعين الذكر دون الأنثى فكذلك المراد في الموضع الآخر والسنة تدل على ذلك فقد روي أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال للابنة النصف وللأخت ما بقي فسئل عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه فقال قد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين والباقي للأخت } ففي هذا تنصيص على أن الأخت عصبة مع البنت والمعنى فيه أن حالة الانفراد حال الأخت أقوى من حال الاختلاط بالإخوة لأن حالة الاختلاط حال مزاحمة وحال الانفراد حال عدم المزاحمة . فإذا كانت هي لا تحجب عن الميراث في حالة الاختلاط بالإخوة فلأن لا تحجب في حالة الانفراد كان أولى وبهذا يتبين أن وجود عين الولد ليس بموجب حرمان الإخوة والأخوات ، وإنما يحجبون بفريضة الابنة .

( ألا ترى ) أن للأخوات المفردات لأبوين السدس مع الابنة الواحدة .

ولو لم يكن حجب الأخوات بفريضة البنات لكانت تثبت المزاحمة بينهن وبين الابنة الواحدة في فريضة البنات كبنات الابن فإنهن يزاحمن الابنة الواحدة في فريضة البنات فيكون لهن السدس .

وإذا ثبت أن حجب الأخوات بفريضة البنات فيما وراء فريضة الابنة انعدم الحجب فيثبت الاستحقاق لهن بخلاف بنات الابن مع الابنتين لأن حجبهن بوجود البنات لا بفريضة البنات يدل عليه أن استحقاق البنات الميراث ينبني على القرب ، وذلك يكون بالولادة فولد الرجل أقرب إليه من ولد ابنه وولد ابنه أقرب من ولد جده كما أن الأب أقرب إليه من الجد والأخوات ولد الأب والعصوبة تستحق بالولادة لا بالأب في الجملة فعند الحاجة يثبت حكم العصوبة لولد الأب ذكرا كان ، أو أنثى ، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك في حق الأخوات مع البنات لأنهن صرن محجوبات عن فريضة البنات . فإذا كان هناك ذكر معهن فجعلهن عصبة بالذكر أولى وإذا لم يكن يجعلهن عصبة في استحقاق ما وراء فريضة البنات بخلاف فريضة بنات الابن فالحاجة لا تتحقق إلى ذلك في حقهن فإنهن لا يحجبن عن فريضة [ ص: 159 ] البنات بخلاف الأخوات لأم لأنهن يدلين بالأم ، ولا تأثير لقرابتها في العصوبة .

( ألا ترى ) أن الذكر هو الذي يدلي بقرابتها يوضحه أن الله تعالى شرط كلالة مبهمة لتوريث أولاد الابن ومن له ابنة فليس بكلالة مطلقا وشرط توريث أولاد الأب كلالة مقيدة بقوله تعالى { إن امرؤ هلك ليس له } أي ولد ذكر بدليل آخر الآية وهو قوله تعالى { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء } فالشرط هناك عدم ولد ذكر بالاتفاق ولم يذكر الشرط هناك نصا بل هو معطوف على ما في أول الآية والدليل عليه أن من له ابنة فهو كلالة معنى وليس بكلالة صورة فإن الكلالة من يكون منقطع النسب ، ولا نسب لأحدهم فإن الإخوة لا ينسبون إلى أخيهم وأولاد البنت لا ينسبون إلى أب أمهم ، وإنما ينسبون إلى أب أبيهم فلكونه كلالة معنى قلنا يرثه الأخوات لأب وأم ، أو لأب ولكونه غير كلالة صورة قلنا لا يرثه الأخوات لأم إذا عرفنا هذا فنقول الإخوة والأخوات ، وإن كانوا ينزلون منزلة الأولاد في الإرث فلا ينزلون منزلتهم في الحجب حتى إنهم لا يحجبون الزوج والزوجة والواحد منهم لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس بخلاف الأولاد لأن الحجب ثابت بالنص من غير أن يعقل فيه المعنى فإنما يثبت في مورد النص ، وإنما ورد النص به في الأولاد خاصة بخلاف الإرث فإنه معقول المعنى وهو القرب على ما قررنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية