الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التنبيه الثالث

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي ; لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية ، وإنما قالوا : إنه ليس من الاستثناء الحقيقي ; لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى " لكن " فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاستثناء ، وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول : إن الثوب في المثال المتقدم لغو ، ويعد ندما من المقر بالألف ، والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به ، قيل إنها نسبة تواطؤ ، وقيل : إنها من قبيل الاشتراك ، وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود ، بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      والحكم بالنقيض للحكم حصل لما عليه الحكم قبل متصل     وغيره منقطع ورجحا
                                                                                                                                                                                                                                      جوازه وهو مجاز أوضحا     فلتنم ثوابا بعد ألف درهم
                                                                                                                                                                                                                                      للحذف والمجاز أو للندم     وقيل بالحذف لدى الإقرار
                                                                                                                                                                                                                                      والعقد معنى الواو فيه جار     بشركة وبالتواطي قال
                                                                                                                                                                                                                                      بعض وأوجب فيه الاتصالا

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] ، منقطع ، هو الظاهر ، وقيل : هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كقول نابغة ذبيان :


                                                                                                                                                                                                                                      ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 470 ] وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      فما يك في من عيب فإني     جبان الكلب مهزول الفصيل

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول فالآية كقوله : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا الآية [ 7 \ 126 ] ، وقوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، كما تقدم مستوفى في سورة " براءة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله في هذه الآية الكريمة : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فيه سؤال معروف ، وهو أن يقال : ما وجه ذكر البكرة والعشي ، مع أن الجنة ضياء دائم ولا ليل فيها ، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن ، كقوله : غدوها شهر ورواحها شهر [ 34 \ 12 ] ، أي : قدر شهر ، وروي معنى هذا عن ابن عباس ، وابن جريج وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثاني : أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداء وعشاء فذلك الناعم ، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك ، ويروى هذا عن قتادة ، والحسن ، ويحيى بن أبي كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثالث : أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي ، والمساء والصباح ، كما يقول الرجل : أنا عند فلان صباحا ومساء ، وبكرة وعشيا ، يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الرابع : أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم ، والعشي : هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم ; لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال ، وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الخامس : هو ما رواه الترمذي الحكيم في ) نوادر الأصول ( من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة ، قالا : قال رجل : يا رسول الله ، هل في الجنة من ليل ؟ قال : " وما يهيجك على هذا " ؟ قال : سمعت الله تعالى يذكر : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فقلت : الليل بين البكرة والعشي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هناك ليل ، إنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو ، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة " . انتهى [ ص: 471 ] بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره ، وقال القرطبي بعد أن نقل هذا : وهذا في غاية البيان لمعنى الآية ، وقد ذكرناه في كتاب ) التذكرة ( ، ثم قال : وقال العلماءليس في الجنة ليل ولا نهار ، وإنما هم في نور أبدا ، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب ، وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ، وفتح الأبواب ، ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما . انتهى منه ، وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الجواب الأول ، والعلم عند الله تعالى . \ 50

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية