الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 340 ] المسألة الرابعة

              فنقول وبالله التوفيق : إن للناس في هذا المعنى مآخذ :

              منها : ما هو عام جدا ، وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها ، وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية [ النساء : 115 ] وممن أخذ به عبد الله بن مسعود ; فروي أن امرأة من بني أسد أتته ، فقالت له : بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة ، وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول ! فقال لها عبد الله : أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله [ الحشر : 7 ] ؟ قالت : بلى قال : فهو ذاك .

              وفي رواية قال عبد الله : لعن الله الواشمات ، والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال : فبلغ ذلك [ ص: 341 ] امرأة من بني أسد ; فقالت : يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله وهو في كتاب الله ؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] الحديث .

              فظاهر قوله لها : هو في كتاب الله ، ثم فسر ذلك بقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر : 7 ] دون قوله : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله [ النساء : 119 ] أن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي ، ويشعر بذلك أيضا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه ; فنهاه ، فقال : ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ الحشر : 7 ] وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر ; فقال له ابن عباس : اتركهما فقال : إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس : قد نهى رسول الله صلى لله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر ; فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله [ ص: 342 ] قال : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] وروي عن الحكم بن أبان ; أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد ; فقال : هن أحرار قلت : بأي شيء ؟ قال : بالقرآن قلت : بأي شيء في القرآن ؟ قال : قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن [ النساء : 59 ] وكان عمر من أولي الأمر قال : عتقت ولو بسقط .

              وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو ، ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة [ ص: 343 ] ومنها : الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام ; إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه ، أو ما أشبه ذلك ; كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى ، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب ، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية ، والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان ، والبيوع وأحكامها ، والجنايات من القصاص وغيره ، كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن ، وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ ص: 344 ] [ النحل : 44 ] وقد روي عن عمران بن حصين ; أنه قال لرجل : إنك امرؤ أحمق ؛ أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ؟ ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله مفسرا ؟ إن كتاب الله أبهم هذا ، وإن السنة تفسر ذلك .

              وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير : لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف : والله ما نريد بالقرآن بدلا ، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا .

              وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية ; قال : كان الوحي ينزل على رسول [ ص: 345 ] الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك قال الأوزاعي : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر : يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه .

              وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب ; فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ، ولكني أقول : إن السنة تفسر الكتاب وتبينه .

              فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود ، وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى .

              [ ص: 346 ] ومنها : النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة ، وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح ، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها ، والتعريف بمفاسدهما دفعا لها ، وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام ، وهي : الضروريات ، ويلحق بها مكملاتها . والحاجيات ، ويضاف إليها مكملاتها . والتحسينيات ، ويليها مكملاتها . ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد ، وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور ; فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها ، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها ; فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام [ ص: 347 ] فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة ; فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان ، وهي : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ; فأصلها في الكتاب ، وبيانها في السنة ، ومكمله ثلاثة أشياء ، وهي : الدعاء إليه بالترغيب والترهيب . وجهاد من عانده أو رام إفساده . وتلافي النقصان الطارئ في أصله . وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال . وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان ، وهي : إقامة أصله بشرعية التناسل ، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب ، وذلك ما يحفظه من داخل ، والملبس والمسكن ، وذلك ما يحفظه [ ص: 348 ] من خارج وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة ، ومكمله ثلاثة أشياء ، وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنا ، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح ، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته ; كالطلاق ، والخلع ، واللعان ، وغيرها ، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد ، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد ، وشرعية الحد والقصاص ، ومراعاة العوارض اللاحقة ، وأشباه ذلك .

              وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم ، وأصوله في القرآن والسنة بينتها ، وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض ، وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان ، وهو في [ ص: 349 ] القرآن والسنة ، وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده والامتناع مما يفسده ، وهو في القرآن ، ومكمله شرعية الحد أو الزجر ، وليس في القرآن له أصل على الخصوص ; فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا ; فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة ، وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض ; فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف ، هذا وجه في الاعتبار في الضروريات ، ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد ; فيحصل المراد أيضا وإذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر أيضا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه ; فإن الحاجيات دائرة على الضروريات وكذلك التحسينيات .

              وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة ; فلم يتخلف عنها شيء [ ص: 350 ] والاستقراء يبين ذلك ، ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة ، ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه .

              ومن تشوف إلى مزيد ; فإن دوران الحاجيات على التوسعة ، والتيسير ، ورفع الحرج والرفق .

              فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة ; كالتيمم ، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها ، وفي الصلاة بالقصر ، ورفع القضاء في الإغماء ، والجمع ، والصلاة قاعدا وعلى جنب ، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض ، وكذلك سائر العبادات ; فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك ، وإلا ; فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها ، والسنة أول قائم بذلك وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص ; كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها ، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية .

              وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق ، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع ، وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر ، وإباحة الطلاق من أصله ، والخلع وأشباه ذلك .

              [ ص: 351 ] وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير ، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب ، ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها ، ومنه التوسعة في ادخار الأموال ، وإمساك ما هو فوق الحاجة منها ، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار .

              وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره ، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك ، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه ; فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب ، وما فسر من ذلك في الكتاب ; فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه . وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات ; فإنها راجعة إلى العمل [ ص: 352 ] بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات ; كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات ، على رأي من رأى أنها من هذا القسم ، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك ، وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات ، وآداب الرفق في الصيام ، وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان ، وآداب الأكل والشرب ، ونحو ذلك ، وبالنسبة إلى النسل ; كالإمساك بالمعروف ، أو التسريح بالإحسان ، من عدم التضييق على الزوجة ، وبسط الرفق في المعاشرة ، وما أشبه ذلك ، وبالنسبة إلى المال ; كأخذه من غير إشراف نفس والتورع في كسبه واستعماله ، والبذل منه على المحتاج ، وبالنسبة إلى العقل ; كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها ، بناء على أن قوله تعالى : فاجتنبوه يراد به المجانبة بإطلاق .

              فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا ، وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم ، وأشفى في الشرح ، وإنما المقصود هنا التنبيه ، والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر مما أشير إليه ، وبالله التوفيق .

              ومنها : النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين ، وهو الذي تبين في كتاب الاجتهاد من هذا المجموع ، ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع ، وهو المبين في دليل القياس ولنبدأ بالأول : [ ص: 353 ] وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني ، وتبقى الواسطة على اجتهاد ، والتباين لمجاذبة الطرفين إياها ; فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ ; فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما تبين في كتاب الاجتهاد ، وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة ; فيأتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه البيان وأنه [ ص: 354 ] لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطي أو غيره وهذا هو المقصود هنا ويتضح ذلك بأمثلة أحدها : أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث ، وبقي بين هذين [ ص: 355 ] الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما ; فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر ; فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ، وقال : إنها ركس .

              وسئل ابن عمر عن القنفذ ; قال " كل " . وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ الأنعام : 145 ] فقال له إنسان : إن أبا هريرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : هو خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر : إن قاله النبي صلى الله عليه وسلم فهو كما قال [ ص: 356 ] وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العذرة .

              فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث ، كما ألحق عليه [ ص: 357 ] الصلاة والسلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات [ ص: 358 ] والثاني : أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر ; كالماء ، واللبن ، والعسل وأشباهها ، وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ; فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ، ولكنه يوشك أن يسكر ، وهو نبيذ الدباء ، والمزفت ، والنقير وغيرها ; فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا ; سدا للذريعة ; ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل ; فقال عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن الانتباذ ; فانتبذوا و " كل [ ص: 359 ] [ ص: 360 ] مسكر حرام " وبقي في قليل المسكر على الأصل من التحريم ; فبين أن [ ص: 361 ] " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما ; فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين فكان البيان من رسول الله يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين .

              والثالث : أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك ، وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما فصيده حرام ، إذ لم يمسك إلا على نفسه ; فدار [ ص: 362 ] بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده ; فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك ، والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك ، فتعارض الأصلان ; فجاءت السنة ببيان ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : " فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه " وفي حديث آخر : " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا ; فإنما أمسكه عليك " وجاء في حديث آخر : إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن [ ص: 363 ] أكل منه الحديث [ ص: 364 ] وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين .

              والرابع : أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا ، وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء ، وأبيح للحلال مطلقا ; فمن قتله فلا شيء عليه ، فبقي قتله خطأ في محل النظر ; فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ [ ص: 365 ] قال الزهري جاء القرآن بالجزاء على العامد ، وهو في الخطأ سنة والزهري من أعلم الناس بالسنن [ ص: 366 ] والخامس : أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن ، وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام ; فبين صاحب السنة صلى الله عليه وسلم من ذلك على الجملة وعلى التفصيل .

              فالأول قوله " الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات الحديث .

              ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة : واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه بعتبة ، الحديث [ ص: 367 ] وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد : فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها ; فلا تأكل ، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها .

              وقال في بئر بضاعة ، وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات : خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة .

              [ ص: 368 ] [ ص: 369 ] وجاء في الصيد : كل ما أصميت ودع ما أنميت .

              وقال في حديث عقبة بن الحرث في الرضاع ; إذ أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته ، والمرأة التي أراد تزوجها ، قال فيه : كيف بها وقد زعمت أنها [ ص: 370 ] قد أرضعتكما ؟ دعها عنك إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة .

              والسادس : أن الله عز وجل حرم الزنى ، وأحل التزويج وملك اليمين ، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع ; فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض ; فجاء في السنة ما بين الحكم في بعض الوجوه ، حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا ، أو في بعض الأحوال ، [ ص: 371 ] وبالأصل الآخر في حال آخر ; فجاء في الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ; فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها ; فلها المهر بما استحل منها ، وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة .

              والسابع : أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات ، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث ، فدارت ميتة البحر بين الطرفين ; فأشكل حكمها ; فقال عليه الصلاة والسلام : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ، [ ص: 372 ] وروي في بعض الحديث : أحلت لنا ميتتان : الحيتان ، والجراد [ ص: 373 ] [ ص: 374 ] وأكل عليه الصلاة والسلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة . والثامن : أن الله تعالى جعل النفس بالنفس ، وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المؤمنون : 50 ] إلى آخر الآية ، هذا في العمد ، وأما الخطأ ; فالدية لقوله : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] [ ص: 375 ] وبين عليه الصلاة والسلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله ; فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها ; فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ، ويشبه الإنسان التام لخلقته ; فبينت السنة فيه أن ديته الغرة ، وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له .

              والتاسع : أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة ; فدار الجنين الخارج من بطن [ ص: 376 ] المذكاة ميتا بين الطرفين ; فاحتملهما ; فقال في الحديث : ذكاة الجنين ذكاة أمه ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال [ ص: 377 ] والعاشر : أن الله قال : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف [ النساء : 11 ] ; فبقيت البنتان مسكوتا عنهما ; فنقل [ ص: 378 ] في السنة حكمهما ، وهو إلحاقهما بما فوق البنتين . ذكره القاضي إسماعيل فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها ; فإنه أمر واضح لمن تأمل ، وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما ، أو إليهما معا ; فيأخذ من كل منهما بطرف ; فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما [ ص: 379 ] وأما مجال القياس ; فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها ، وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها فيجتزي بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادا على بيان السنة فيه ، وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه وإن كان خاصا في حكم العام معنى ، وقد مر في كتاب الأدلة بيان هذا المعنى ، فإذا كان كذلك ، ووجدنا في الكتاب أصلا ، وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه أو يدانيه ; فهو المعنى هاهنا ، وسواء علينا أقلنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بالقياس أو بالوحي ; إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس ، والأصل الكتاب شامل له بالمعنى المفسر في أول كتاب الأدلة وله أمثلة .

              أحدها : أن الله عز وجل حرم الربا ، وربا الجاهلية الذي قالوا فيه : [ ص: 380 ] إنما البيع مثل الربا [ البقرة : 275 ] هو فسخ الدين في الدين ، يقول الطالب : إما أن تقتضي وإما أن تربي ، وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون [ البقرة : 279 ] ; فقال عليه الصلاة والسلام : وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ; فإنه موضوع كله .

              وإذا كان كذلك ، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ; ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى ; فقال عليه الصلاة والسلام : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فمن زاد أو ازداد ; فقد أربى ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد [ ص: 381 ] ثم زاد على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف ، وعده من الربا لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ، ويدخل فيه بحكم المعنى السلف يجر نفعا ، وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه ; لتقارب المنافع فيما يراد منها ; فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء ، وهو ممنوع ، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة [ ص: 382 ] إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة ; إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة .

              ويبقى النظر : لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما ؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين ، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم ; فلذلك بينتها السنة ; إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين ، كما وكل إليهم النظر في كثير من محال [ ص: 383 ] الاجتهاد ; فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس ; فتأمله . والثاني : أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح ، وبين الأختين وجاء في القرآن : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا ، وقد يروى في هذا الحديث : فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم والتعليل يشعر بوجه القياس .

              والثالث : أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء ، وأنه أسكنه في الأرض ، ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر ; فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه الطهور ماؤه ، الحل ميتته .

              والرابع : أن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن ، ولم يذكر ديات الأطراف ، وهي مما يشكل قياسها على العقول ; فبين الحديث من دياتها ما [ ص: 384 ] وضح به السبيل ، وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره ; فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه .

              والخامس : أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة : من النصف ، والربع ، والثمن ، والثلث ، والسدس ، ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث الآية [ النساء : 11 ] وقوله في الأولاد : للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] وقوله في آية الكلالة : وهو يرثها إن لم يكن لها ولد [ النساء : 176 ] [ ص: 385 ] وقوله : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 176 ] فاقتضى أن ما بقي بعد الفرائض المذكورة فللعصبة ، وبقي من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين ; كالجد ، والعم ، وابن العم ، وأشباههم ; فقال عليه الصلاة والسلام : ألحقوا الفرائض بأهلها ; فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ، وفي رواية : فلأولى عصبة ذكر ; فأتى هذا على ما بقي مما يحتاج إليه ، بعد ما نبه الكتاب على أصله .

              والسادس : أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] فألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين سائر القرابات من الرضاعة التي يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ ، وبنت الأخت ، وأشباه ذلك ، وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق [ ص: 386 ] بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق ، نصت عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد ; فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ، وسائر ما جاء في هذا المعنى ، ثم ألحق بالإناث الذكور ; لأن اللبن للفحل ، ومن جهته در المرأة ، فإذا كانت المرأة بالرضاع أما ; فالذي له اللبن أب بلا إشكال .

              والسابع : أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم ; فقال : رب اجعل هذا بلدا آمنا [ البقرة : 126 ] [ ص: 387 ] وقال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا [ العنكبوت : 67 ] وذلك حرم الله مكة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه ; فأجابه الله وحرم ما بين لابتيها ، فقال : إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها ، أو يقتل صيدها [ ص: 388 ] وفي رواية : ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء .

              وفي حديث آخر : فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا ; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ومثله في صحيفة علي المتقدمة ; فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة ، وقد جاء فيها قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام إلى قوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم ، وارتكاب المنهيات [ ص: 389 ] على تنوعها ، حسبما فسرته السنة ; فالمدينة لاحقة بها في هذا المعنى . والثامن : أن الله تعالى قال : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ البقرة : 282 ] ; فحكم في الأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل ، وظهر به ضعف شهادتهن ، ونبه على ذلك في قوله : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل .

              وحين ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ البقرة : 282 ] ; دل على انحطاطهن عن درجة الرجل ، فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد ; فقضى عليه الصلاة والسلام بذلك لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكما قضى به قوله تعالى : [ ص: 390 ] إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين في القياس ، إلا أنه يخفى ; فبينته السنة .

              والتاسع : أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله ، وذكر الإجارة في بعض الأشياء ; كالجعل المشار إليه في قوله تعالى : ولمن جاء به حمل بعير [ يوسف : 72 ] والإجارة على القيام بمال اليتيم في قوله : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] وفي العمال على الصدقة كقوله تعالى : والعاملين عليها [ التوبة : 60 ] وفي بعض منافع لا تأتي على سائرها ; فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين فبين النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كثيرا ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين ، وهذا هو المجال القياسي المعتبر في الشرع ، ولا علينا أقصد النبي عليه الصلاة والسلام القياس [ ص: 391 ] على الخصوص أم لا ; لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه على أي وجه كان .

              والعاشر : أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده وعن رؤيا يوسف ورؤيا الفتيين ، وكانت رؤيا صادقة ، ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا ; فبين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام ذلك ، وأن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة ، وأنها من المبشرات ، وأنها على [ ص: 392 ] أقسام إلى غير ذلك من أحكامها ، فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم ، وهو المعنى الذي في القياس ، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة .

              ومنها : النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان ; فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد ، بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ، ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله عليه الصلاة والسلام : [ ص: 393 ] لا ضرر ولا ضرار من الكتاب ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث ; فلا معنى للإعادة .

              ومنها : النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن ، وإن كان في السنة بيان زائد ، ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارا إليه من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى أو منصوصا عليه في القرآن ، ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته [ ص: 394 ] [ ص: 395 ] وله أمثلة كثيرة : أحدها : حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض ; فقال عليه الصلاة والسلام لعمر : مره فليراجعها ، ثم ليتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ; فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء يعني : أمره في قوله : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] والثاني : حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها [ ص: 396 ] سكنى ولا نفقة ; إذ طلقها زوجها ألبتة وشأن المبتوتة أن لها السكنى ، وإن لم يكن لها نفقة ; لأنها بذت على أهلها بلسانها ; فكان ذلك تفسيرا لقوله : ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ الطلاق : 1 ] . والثالث : حديث سبيعة الأسلمية ; إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن قد حلت ; فبين الحديث أن قوله [ ص: 397 ] تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 234 ] مخصوص في غير الحامل ، وأن قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق : 4 ] عام في المطلقات وغيرهن . والرابع : حديث أبي هريرة في قوله : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم [ البقرة : 59 ] قال : قالوا حبة في شعرة يعني : عوض قوله : وقولوا حطة [ البقرة : 58 ] [ ص: 398 ] والخامس : حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة طاف بالبيت سبعا ; فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة : 125 ] ; فصلى خلف المقام ، ثم أتى الحجر فاستلمه ، ثم قال : نبدأ بما بدأ الله به ، وقرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] . والسادس : حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : وقال ربكم ادعونى أستجب لكم [ غافر : 60 ] قال : الدعاء هو العبادة ، وقرأ الآية إلى قوله : داخرين [ غافر : 60 ] . والسابع : حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر [ البقرة : 187 ] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 399 ] إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل . والثامن : حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الوسطى صلاة العصر .

              وقال يوم الأحزاب : اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة [ ص: 400 ] الوسطى حتى غابت الشمس . والتاسع : حديث أبي هريرة : قال عليه الصلاة والسلام : إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ آل عمران : 185 ] . والعاشر : حديث أنس في الكبائر : قال عليه الصلاة والسلام فيها : [ ص: 401 ] الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، وقول الزور ، وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر ، وجميعها تفسير لقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ النساء : 31 ] وهذا النمط في السنة كثير ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على شرط النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب أو نحوها ، وأول شاهد في هذا الصلاة ، والحج ، والزكاة والحيض ، والنفاس ، واللقطة ، والقراض ، والمساقاة ، والديات ، والقسامات ، وأشباه ذلك من أمور لا تحصى ; فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ، ولا العلماء الراسخون في العلم .

              ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه ; فلم يوف به إلا على التكلف المذكور ، والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة ; فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد [ ص: 402 ] وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرج مسلم بن الحجاج في كتابه المسند الصحيح ، دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه ، وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث ، وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب ، والله الموفق للصواب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية