الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما " الكرامية " فيقولون : صار متكلما بعد أن لم يكن ; فيلزم انتفاء صفة الكمال عنه ويلزم حدوث الحادث بلا سبب ويلزم أن ذاته صارت محلا لنوع الحوادث بعد أن لم تكن كذلك : كما تقوله " الكرامية " وهذا باطل . وهو الذي أبطله السلف بأن ما يقوم به من نوع الكلام والإرادة والفعل : إما أن يكون صفة كمال أو صفة نقص فإن كان كمالا فلم يزل ناقصا حتى تجدد له ذلك الكمال وإن كان نقصا فقد نقص بعد الكمال . وهذه الحجة لا تبطل قيام نوع الإرادة والكلام شيئا بعد شيء ; فإن ذلك إنما يتضمن حدوث أفراد الإرادة والكلام لا حدوث النوع والنوع ما زال [ ص: 326 ] قديما وما زال متصفا بالكلام والإرادة وذلك صفة كمال فلم يزل متصفا بالكمال ولا يزال بخلاف ما إذا قيل : صار مريدا ومتكلما بعد أن لم يكن .

                وإذا قيل في ذلك : الفرد من أفراد الإرادة والكلام والفعل : هل هو كمال أو نقص ؟ قيل : هو كمال وقت وجوده ونقص قبل وجوده ، مثل مناداته لموسى كانت كمالا لما جاء موسى ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصا والله منزه عنه ; ولأن أفراد الحوادث يمتنع قدمها وما امتنع قدمه لم يكن عدمه في القدم نقصا . بل النقص المنفي لا بد أن يكون عدم ما يمكن وجوده بل عدم ما يمكن وجوده ويكون وجوده خيرا من عدمه ; فلا يكون عدم الشيء نقصا إلا بهذين الشرطين : بأن يكون عدمه ممكنا ويكون وجوده خيرا من عدمه فإذا كان عدمه ممتنعا : كعدم الشريك والولد فهذا مدح وصفة كمال وإذا كان عدمه ممكنا فالأولى عدمه : كالأشياء التي لم يخلقها فإنه كان أن لا يخلقها أكمل من أن يخلقها كما أن ما خلقه كان أن يخلقه أكمل من أن لا يخلقه .

                وحينئذ فما وجد من الحوادث في ذاته أو بائنا عنه كان وجوده وقت وجوده هو الكمال وعدمه وقت عدمه هو الكمال وكان عدمه وقت وجوده أو وجوده وقت عدمه نقصا ينزه الله عنه سبحانه وتعالى . فقد تبين الفرق بين نوع الحوادث وأعيانها وأن النوع لو كان حادثا بذاته بعد أن لم يكن لزم كماله بعد نقصه أو نقصه بعد كماله . [ ص: 327 ] ( وأيضا فالحادث لا بد له من سبب والأفراد يمكن حدوثها ; لأن قبلها أمورا أخرى تصلح أن تكون سببا أما إذا قدر عدم النوع كله ثم حدث لزم أن يحدث النوع بلا سبب يقتضي حدوثه وهو ممتنع . وأيضا فهذا " النوع " إما أن يقال : كان قادرا عليه فيما لم يزل ; أو صار قادرا بعد أن لم يكن فإن كان قادرا عليه أمكن وجوده ; فلا يمتنع وجوده فلا يجوز الجزم بعدمه . وإن لم يكن قادرا لزم حدوث القدرة بلا سبب وانتقال القدرة والامتناع إلى الإمكان بلا سبب وهذا بخلاف الأفراد ; فإن ذلك كان ممتنعا حتى يحصل ما يصير به ممكنا ; أو كان ممكنا ولكن الحكمة اقتضت وجوده بعد تلك الأمور .

                وأما النوع إذا قيل بحدوثه لم يختص بوقت ; إذ العدم المحض لا يعقل فيه وقت يميزه عن وقت . و " أيضا " فكذلك النوع ممكن له لوجوده وهو لا يتوقف على شيء غيره لا منه ولا من غيره وما كان ممكنا لم يتوقف إلا على ذاته لزم وجوده بوجود ذاته كحياته وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته ; فدل ذلك على وجوب قدم نوع هذه الصفات ولزوم النوع لذاته وإن قيل بحدوث الأفراد . وعلى هذا فيقال : لا تقوم بذاته الصفات الحادثة أي : لا يقوم به نوع من أنواع الصفات الحادثة بمعنى أن الكلام صفة والإرادة صفة ; ولا تحدث له هذه الصفات ولا نوع من أنواع هذه الصفات ; بل لم يزل متكلما مريدا وإن حدثت [ ص: 328 ] أفراد كل صفة . أي : إرادة هذا الحادث المعين وهذا الشخص المعين ; فنفس الصفة لم تزل موجودة .

                وعلى هذا يقال : لو خلق في ذاته " الكلام " ولو أحدث في ذاته الكلام ولو كان كلامه حادثا أو محدثا ; فإن نفس الكلام : أي هذه الصفة ونوعها ليس بحادث ولا محدث ; ولا مخلوق . وأما الكلام المعين " كالقرآن " فليس بمخلوق لا في ذاته ولا خارجا عن ذاته ; بل تكلم بمشيئته وقدرته وهو حادث في ذاته . وهل يقال : أحدثه في ذاته ؟ على قولين : أصحهما أنه يقال ذلك كما قال تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } " وقد بوب البخاري في صحيحه لهذا بابا دل عليه الكتاب والسنة . وهذا بخلاف المخلوق ; فإنه ليس في عقل ولا شرع ولا لغة : أن الإنسان يسمي ما قام به من الأفعال والأقوال خلقا له ويقول : أنا خلقت ذلك بل يقول : أنا فعلت وتكلمت وقد يقول : أنا أحدثت هذه الأقوال والأفعال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة } " وقال : { المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } " . وإن كان مقصوده " بالإحداث " هنا أخص من معنى الإحداث بمعنى الفعل [ ص: 329 ] وإنما مقصوده من أحدث فيها بدعة تخالف ما قد سن وشرع ويقال للجرائم : الأحداث ولفظ الإحداث يريدون به ابتداء ما لم يكن قبل ذلك . ومنه قوله : " إن الله يحدث من أمره ما شاء " { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } . ولا يسمون مخلوقا إلا ما كان بائنا عنه كقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } وإذا قالوا عن كلام المتكلم : إنه مخلوق ومختلق فمرادهم أنه مكذوب مفترى كقوله : { وتخلقون إفكا } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية