الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 330 ] فصل وما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في " مسألة حدوث العالم " إنما يدل على مذهب السلف والأئمة . أما " الفلاسفة " فحجتهم إنما تدل على أنه لم يزل فاعلا كما أن حجة " الأشعرية " إنما تدل على أنه لم يزل متكلما وكل من الفريقين احتج على قدم العين بأدلة لا تقتضي ذلك . وأما " المتكلمون " فعمدتهم أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث أو ما لم يسبق الحوادث فهو حادث وكل من هاتين القضيتين هي صحيحة باعتبار وتدل على الحق ; فما لم يسبق الحوادث المحدودة التي لها أول فهو حادث وهذا معلوم بصريح العقل واتفاق العقلاء فكل ما علم أنه كان بعد حادث له ابتداء ; أو مع حادث له ابتداء : فهو أيضا حادث له ابتداء بالضرورة .

                وكذلك ما لم يخل من هذه الحوادث . و ( أيضا فما لم يخل من الحوادث مع حاجته إليها فهو حادث وما لم يخل من حوادث يحدثها فيه غيره فهو حادث بل ما احتاج إلى الحوادث مطلقا فهو حادث وما قامت به حوادث من غيره فهو حادث وما كان محتاجا إلى غيره فهو حادث وما قامت به الحوادث فهو حادث . [ ص: 331 ] وهذا يبطل قول " المتفلسفة " القائلين بقدم الفلك كأرسطو وأتباعه ; فإن " أرسطو " يقول : إنه محتاج إلى العلة الأولى للتشبه بها وبرقلس وابن سينا ونحوهما يقولون : إنه معلول له أي موجب له والأول علة فاعلة له ; فالجميع يقولون : إنه محتاج إلى غيره مع قيام الحوادث به ; وإنه لم يخل منها . ويقولون : هو قديم ; وهذا قول باطل .

                ويقول " ابن سينا " إنه ممكن يقبل الوجود والعدم مع قيام الحوادث به وهو قديم أزلي . وهذا باطل ; فإن كونه محتاجا إلى غيره يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه فإن واجب الوجود بنفسه لا يكون محتاجا إلى غيره وإن لم يكن واجبا بنفسه كان ممكنا يقبل الوجود والعدم وحينئذ فيكون محدثا من وجوه : ( منها : أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا وأما القديم الذي يمتنع عدمه فلا يقبل الوجود والعدم . ( ومنها : أنه إذا كان مع حاجته تحله الحوادث من غيره دل على أن غيره متصرف فيه قاهر له تحدث فيه الحوادث ولا يمكنه دفعها عن نفسه وما كان مقهورا مع غيره لم يكن موجودا بنفسه ولا مستغنيا بنفسه ; ولا عزيزا ولا مستقلا بنفسه ; وما كان كذلك لم يكن إلا مصنوعا مربوبا فيكون محدثا . و ( أيضا فإذا لم يخل من الحوادث التي يحدثها فيه غيره ولم يسبقها ; بل كانت لازمة له دل على أنه في جميع أوقاته مقهورا مع الغير متصرفا له ; يدل [ ص: 332 ] على أنه مفتقر إليه دائما وهذا يبطل قول المتكلمين الذين يقولون : إنما يفتقر إليه حال حدوثه فقط .

                كما يبطل قول المتفلسفة الذين يقولون : يفتقر إليه في دوامه مع قدمه وعدم حدوثه . و " التحقيق " أنه محدث يفتقر إليه حال الحدوث وحال البقاء . وكونه محلا للحوادث من غيره ; أو محلا للحوادث مع حاجته ; يدل على أنه محدث . وأما كونه محلا لحوادث يحدثها هو فهذا لا يستلزم لا حاجته ولا حدوثه ; ولهذا كان " الصحابة " يذكرون أن حدوث الحوادث في العالم يدل على أنه مربوب ; كما قد ذكرنا هذا في موضع آخر والمربوب محدث وكل ما سوى الله تحدث فيه الحوادث من غيره وهو محتاج إلى غيره فكل فلك فإنه يحركه غيره فتحدث فيه الحركة من غيره فالفلك المحيط يحركها كلها وهو متحرك بخلاف حركته فتحدث فيه مناسبة حادثة بغير اختياره وهي مستقلة بحركتها لا تحتاج فيها إليه ; فامتنع أن يكون ربا لها والشمس والقمر والكواكب يحركها غيرها فكلها مسخرات بأمره . [ ص: 333 ] فصل وقد ذكرنا " أصلين " : ( أحدهما : أن ما يحتجون به من الحجج السمعية والعقلية على مذاهبهم إنما يدل على قول السلف وما جاء به الكتاب والسنة لا يدل على ما ابتدعوه وخالفوا به الكتاب والسنة .

                ( الثاني : أن ما احتجوا به يدل على نقيض مقصودهم وعلى فساد قولهم وهذا نوع آخر ; فإن كونه يدل على قول لم يقولوه نوع وكونه يدل على نقيض قولهم وفساد قولهم نوع آخر . وهذا موجود في حجج المتفلسفة والمتكلمة . أما " المتفلسفة " فمثل حججهم على قدم العالم أو شيء منه ; فإنهم احتجوا بأنواع العلل الأربعة : " الفاعلية " و " الغائية " و " المادية " و " الصورية " وعمدتهم : " الفاعلية " وهو : أن يمتنع أنه يصير فاعلا بعد أن لم يكن ; فيجب أنه ما زال فاعلا وهذه أعظم عمدة متأخريهم كابن سينا وأمثاله وهي أظنها منقولة عن برقلس . وأما " أرسطو " وأتباعه فهم لا يحتجون بها ; إذ ليس هو عندهم فاعلا وإنما [ ص: 334 ] احتجوا بوجوب قدم الزمان والحركة وهي الصورية وبوجوب قدم المادة ; لأن كل محدث مسبوق بالإمكان فلا بد له من محل فكل حادث تقبله مادة يقبله وأما " العلة الغائية " فمن جنس " الفاعلية " فيقال لهم : هذه الحجج : إنما تدل على مذهب السلف والأئمة كما تقدم وهي تدل على بطلان قولهم .

                وأما قدم " الفاعلية " وهو : أنه ما زال فاعلا فيقال : هذا لفظ مجمل ; فأنتم تريدون بالفاعل أن مفعوله مقارن له في الزمان ; وإذا كان فاعلا بهذا الاعتبار وجب مقارنة مفعوله له فلا يتأخر فعله فهذه عمدتكم والفاعل عند عامة العقلاء وعند سلفكم وعندكم أيضا - في غير هذا الموضع - هو الذي يفعل شيئا فيحدثه فيمتنع أن يكون المفعول مقارنا له بهذا الاعتبار بل على هذا الاعتبار يجب تأخر كل مفعول له فلا يكون في مفعولاته شيء قديم بقدمه فيكون كل ما سواه محدثا . ثم للناس هنا طريقان : " منهم " من يقول : يجب تأخر كل مفعول له وأن يبقى معطلا عن الفعل ثم يفعل كما يقوله أهل الكلام المبتدع من أهل الملل من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا النفي يناقض دوام الفاعلية فهو يناقض موجب تلك الحجج . و " الثاني " : أن يقال : ما زال فاعلا لشيء بعد شيء فكل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن وهو وحده الذي اختص بالقدم والأزلية فهو " الأول " القديم الأزلي ليس معه غيره وأنه ما زال يفعل شيئا بعد شيء . [ ص: 335 ] فيقال لهم : الحجج التي تقيمونها في وجوب قدم " الفاعلية " كما أنها تبطل قول أهل الكلام المحدث فهي أيضا تبطل قولكم ; وذلك أنها لو دلت على دوام الفاعلية بالمعنى الذي ادعيتم للزم أن لا يحدث في العالم حادث ; إذ كان المفعول المعلول عندكم يجب أن يقارن علته الفاعلية في الزمان وكل ما سوى الأول مفعول معلول له فتحدث مقارنة كل ما سواه فلا يحدث في العالم حادث وهو خلاف المشاهدة والمعقول وباطل باتفاق بني آدم كلهم مخالف للحس والعقل . وأيضا إذا وجب في العلة أن يقارنها معلولها في الزمان فكل حادث يجب أن يحدث مع حدوثه حوادث مقترنة في الزمان لا يسبق بعضها بعضا ولا نهاية لها .

                وهذا قول بوجود علل لا نهاية لها ; وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء ; ولا فرق بين امتناع ذلك في ذات العلة أو شرط من شروطها ; فكما يمتنع أن يحدث عند كل حادث ذات علل لا تتناهى في آن واحد ; وكذلك شروط العلة وتمامها ; فإنها إحدى جزأي العلة ; فلا يجوز وجود ما لا يتناهى في آن واحد لا في هذا الجزء ولا في هذا الجزء ; وهذا متفق عليه بين الناس . وأما النزاع في " وجود ما لا يتناهى على سبيل التعاقب " فقد زال جزء حجتهم ليس هو ما قالوه ; بل موجبه هو " القول الآخر " وهو : أن الفاعل لم يزل يفعل شيئا بعد شيء وحينئذ كل مفعول محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا نقيض قولهم ; بل هذا من أبلغ ما يحتج به على ما أخبرت به الرسل من أن الله [ ص: 336 ] خالق كل شيء ; فإنه بهذا يثبت أنه لا قديم إلا الله وأنه كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن سواء سمي عقلا أو نفسا أو جسما أو غير ذلك . بخلاف دليل أهل الكلام المحدث على الحدوث ; فإنهم قالوا : لو كان صحيحا لم يدل إلا على حدوث الأجسام ونحن أثبتنا موجودات غير العقول و " أهل الكلام " لم يقيموا دليلا على انتفائها وقد وافقهم على ذلك المتأخرون : مثل الشهرستاني والرازي والآمدي .

                وادعوا أنه لا دليل للمتكلمين على نفي هذه الجواهر العقلية ودليلهم على حدوث الأجسام لم يتناولها ; ولهذا صار الذين زعموا أنهم يجيبونهم " بالجواب الباهر " إلى ما تقدم ذكره من التناقض ; فقد تبين أن نفس ما احتجوا به يدل على فساد قولهم وفساد قول المتكلمين ; ويدل على حدوث كل ما سوى الله وأنه وحده القديم دلالة صحيحة لا مطعن فيها . فقد تبين - ولله الحمد - أن عمدتهم على قدم العالم إنما تدل على نقيض قولهم وهو : حدوث كل ما سوى الله - ولله الحمد والمنة - . وأما " الحجة " التي احتجوا بها على أنه لم تزل الحركة موجودة والزمان موجودا وأنه يمتنع حدوث هذا الجنس - وهذا مما اعتمد عليه أرسطو " وأتباعه - فيقال لهم : هذه لا تدل على قدم شيء بعينه من الحركات وزمانها ولا من المتحركات ; فلا تدل على مطلوبهم : وهو قدم الفلك وحركته وزمانه ; [ ص: 337 ] بل تدل على نقيض قولهم ; وذلك أن الحركة لا بد لها من محرك فجميع الحركات تنتهي إلى محرك أول . وهم يسلمون هذا فذلك المحرك الأول الذي صدر عنه حركة ما سواه : إما أن يكون متحركا وإما أن لا يكون فإن لم يكن متحركا لزم صدور الحركة عن غير متحرك وهذا مخالف للحس والعقل ; فإن المعلول إنما يكون مناسبا لعلته فإذا كان المعلول يحدث شيئا بعد شيء امتنع أن تكون علته باقية على حال واحدة : كما قلتم : يمتنع أن يحدث عنها شيء بعد أن لم يكن ; بل امتناع دوام الحدوث عنها أولى من امتناع حدوث متجدد ; فإن هذا يستلزم وجود الممتنع أكثر مما يستلزم ذاك .

                فإنه إذا قيل : من المعلوم بصريح العقل أن ما لم يكن فاعلا فلا بد أن يحدث له سبب يوجب كونه فاعلا وأنه إذا كان حال الفاعل على الحال التي كان عليها قبل الفعل لم يفعل شيئا ولم يحدث عنه شيء قيل لهم : وهذا المعلوم بصريح العقل موجب أنها لا يحدث عنها في الزمان الثاني شيء لم يكن في الزمان الأول إلا لمعنى حدث فيها فإذا لم يحدث فيها شيء لم يحدث عنها شيء . فإذا قيل بدوام الحوادث عنها من غير أن يحدث فيها شيء كان هذا قولا بوجود الممتنعات دائما ; فإنه ما من حادث يحدث إلا قلبت الذات عند حدوثه لما كانت قبل حدوثه وكانت قبل ذلك يمتنع عنها حدوثه ; فالآن كذلك يمتنع عنها حدوثه . [ ص: 338 ] أو يقال : كانت لا تحدثه فهي الآن لا تحدث فهي عند حدوث كل حادث كما كانت قبل ذلك وقبل حدوثه لم تكن محدثة له بل كان ذلك ممتنعا فكذلك الحين الذي قدر فيه حدوثه يجب أن يكون الحدوث فيه ممتنعا . وهذا مما اعترف حذاقهم بأنه لازم كما ذكر ذلك ابن رشد والرازي وغيرهما واعترفوا بأن حدوث المتغير عن غير المتغير مخالف للعقلاء وابن سينا تفطن لهذا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية