الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4472 [ 2350 ] وعنها، قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، - وأنا ساكتة - قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي بنية، ألست تحبين ما أحب؟ ". فقالت: بلى، قال: "أحبي هذه". قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة : والله لا أكلمه فيها أبدا. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش - زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة - قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحال التي دخلت فاطمة عليها وهو بها - فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتبسم -: "إنها ابنة أبي بكر".

                                                                                              وفي رواية: فلم أنشبها أن أثخنتها غلبة.

                                                                                              رواه أحمد ( 6 \ 88 )، والبخاري (2581)، ومسلم (2442)، والنسائي (7 \ 64-66).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قولها: " وهي التي تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ") تعني: زينب . وتساميني، أي: تطاولني وترافعني، وهو مأخوذ من السمو، وهو العلو والرفعة. تعني: أنها كانت تتعاطى أن يكون لها من الحظوة والمنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما كان لعائشة عنده، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: سامه حظه خسف، أي: كلفه ما يشق عليه ويذله، وفيه بعد من جهة اللسان والمعنى.

                                                                                              و (قولها: " ولم أر امرأة خيرا في الدين من زينب ... " الكلام إلى قولها: "... ولا أشد ابتذالا لنفسها في العمل ") الابتذال: مصدر ابتذل من البذلة، وهي الامتهان بالعمل والخدمة، فكانت تعمل زينب - رضي الله عنها - بيديها عمل النساء من الغزل والنسيج، وغير ذلك مما جرت عادة النساء بعمله، والكسب به، وكانت تتصدق بذلك، وتصل به ذوي رحمها، وهي التي كانت أطولهن يدا بالعمل والصدقة، وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا "، وسيأتي.

                                                                                              وفيه ما يدل على جواز صدقة المرأة مما تكسبه في بيت زوجها من غير أمره.

                                                                                              و (قولها: " ما عدا سورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة ") ما عدا [ ص: 326 ] وما خلا: من صيغ الاستثناء، وهما مع " ما " فعلان ينصبان ما بعدهما في المشهور والأفصح. ومع عدم " ما ") يخفضان ما بعدهما، لأنهما حرفان من حروف الخفض على الأعرف الأشهر، والسورة - بفتح السين -: الشدة، والثوران، ومنه: سورة الشراب، أي: قوته وحدته، أي: يعتريها ما يعتري الشارب من الشراب، ويروى هذا الحرف: ما عدا سورة حد - بفتح الحاء من غير تاء تأنيث -، أي: سرعة غضب. والفيئة: الرجوع، ولأجل هذه الحدة، وقعت بعائشة ، واستطالت عليها، أي: أكثرت عليها من القول والعتب، وعائشة - رضي الله عنها - ساكتة تنتظر الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار، فلما علمت أنه لا يكره ذلك من قرائن أحواله انتصرت لنفسها فجاوبتها، وردت عليها قولها حتى أفحمتها، وكانت زينب لما بدأتها بالعتب واللوم، كانت كأنها ظالمة، فجاز لعائشة أن تنتصر، لقوله تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41].

                                                                                              و (قولها: " وقعت في ") هو مأخوذ من الوقيعة التي هي: معركة الحرب، وقيل: هو مأخوذ من الوقع، وهو ألم الرجل من المشي، ومنه قولهم: كل الحذا يحتذي الحافي الوقع - بكسر القاف -.

                                                                                              و (قولها: " فلم أنشب أن أنحيت عليها ") كذا الرواية الثابتة هنا بالنون والحاء المهملة، والياء باثنتين من تحتها، ومعناه: إني أصبت منها بالذم ما يؤلمها، [ ص: 327 ] فكأنها أصابت منها مقتلا. وفي الصحاح: أنحيت على حلقه بالسكين، أي: عرضت، وحينئذ يرجع معنى هذه الرواية لمعنى الرواية الأخرى التي هي: " أثخنتها"، أي: أثقلتها بجراح الكلم. وهو مأخوذ من قوله تعالى: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق [محمد: 4]، أي: أثقلتموهم بالجراح، أو أكثرتم فيهم القتل، ولم أنشبها، أي: لم أمهلها، ولم أتلبث حتى أوقعت بها، وأصله: من نشب بالشيء، أو في الشيء إذا نشب به، واحتبس فيه أو بسببه.

                                                                                              و (قوله: " إنها ابنة أبي بكر ") تنبيه على أصلها الكريم الذي نشأت عنه، واكتسبت الجزالة والبلاغة، والفضيلة منه، وطيب الفروع بطيب عروقها. وغذاؤها من عروقها. كما قال:


                                                                                              طيب الفروع من الأصول ولم ير فرع يطيب وأصله الزقوم

                                                                                              ففيه مدح عائشة وأبيها - رضي الله عنهما -.




                                                                                              الخدمات العلمية