الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              89 - حدثنا بذلك أبو محمد الحسن بن أحمد الرهاوي ، قال : أخبرنا العباس بن عبيد الله أن أباه عبيد الله بن خالد ، وأحمد بن المعلى الحراني حدثاه قالا أخبرنا داود بن سعيد الرقي ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، ويحيى بن كثير البصري العباسي عن أبان بن أبي عياش [ ص: 419 ] عن أنس بن مالك .

              قال أبو محمد الرهاوي وأخبرني عبد الرحمن بن أحمد بن عثمان بن الدلهات ، قال : حدثنا أبو حمزة إدريس بن يونس ، قال : حدثنا موسى بن رجاء الحصني ، عن داود بن سعيد عن يحيى بن كثير عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال لما قدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجزيرة جدد على أهل الذمة بها كتابا فكان الكتاب الذي كتبه عليهم :

              بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علينا معشر أهل الذمة من الجزيرة أنك لما قدمت بلدنا سألناك إتمام ما شارطنا عليه من كان قبلك من عمال عمر بن الخطاب وأن تجدد لنا بذلك عهدا يكون في أيدينا وتكتب لنا بصحته كتابا تؤمننا على أنفسنا وقراباتنا [ ص: 420 ] وأموالنا على أن شرطنا لك على أنفسنا ثم ذكر الشرط على أهل الذمة بطوله إلى آخره .

              لم يختلف المسلمون ممن تذوق طعم الإيمان ، وشرح الله صدره ، وكان من المصدقين بالله وبكتابه وبرسوله أن الله تبارك وتعالى مكن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الأرض وللمؤمنين ، فاستخلفهم في الأرض يعبدونه لا يشركون به شيئا ، فلم يقبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى مكن له وأظهره على العرب كلها فشرح صدره ، ورفع ذكره ، وأعلى أمره ، ووضع به رؤوس من كفر من العرب ، وأبطل عماية الجاهلية وأحق به الحق ، وأبطل [ ص: 421 ] به الباطل ، ثم قبضه إليه بعد أن أكمل به الدين وأتم به النعمة ، قائما بأمره ، ومؤديا لوحيه ، صابرا محتسبا - صلى الله عليه وسلم - .

              واستخلف أبو بكر - رضي الله عنه - فقام مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في قتال من ارتد من العرب
              فلم يزل موفقا رشيدا سديدا ، بين الله أمره ، وأظهر فضله ، وأعلى ذكره ، ومكن له في الأرض ، وأظهر دعوته وأفلج حجته ورفع درجته ، واستوسق به الإسلام فلم يكن في خلافته خلف ، وعبدت العرب ربها لا تشرك به شيئا ، ثم قبض الله أبا بكر - رضي الله عنه - طاهرا زكيا على أفضل الحالات ، وأرفع الدرجات .

              ثم استخلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعده لا اختلاف بين [ ص: 422 ] المسلمين فيه ولا مرية ولا تنازع ، كلمتهم واحدة ، وأيديهم باسطة أعزاء آمنون ، فقاتل بالعرب العجم ، حتى أعز الله به الإسلام ، فاستوثقت عراه ، وتشامخت ذراه واستحكمت قواه ، ففتح الفتوح ، ومصر الأمصار ، ومهد البلاد ، ودين العباد ومكن له في الأرض ، فأذل الله به الكافرين ، وأعز به المؤمنين ، وأغنى الفقير ، وجبر الكسير ، وانقمع النفاق ، وارتفع الشقاق ، ثم قبضه الله إليه شهيدا حميدا مفقودا - رضي الله عنه - .

              واستخلف عثمان - رضي الله عنه - ثم كان الرهط الأخيار الستة المتشاورون عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن ، فاختاروا بعد تشاورهم وحسن نظرهم لا يألون الله والمؤمنين نصيحة ، ولا يخونون الرعية ، عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لتكامل الخصال الشريفة والسوابق الجميلة فيه مع معرفتهم بعلمه وحلمه ، ورأفته بالمسلمين ، لا اختلاف بينهم فيه ، ولا تنازع ، ولا طعن في ذلك طاعن ، مسرعين إلى بيعته ، واثقين بعدله ، لم [ ص: 423 ] يختلف عنه من تخلف ، عن أبي بكر ، ولا تسخط ذلك من [ ص: 424 ] تسخط عمر ، مجمعين له بالرضا والمحبة ، ففتح الله له أقاصي الأرض ، ومكن له فيها ، يحكم بالعدل ، ويأمر بالحق ، ويقفو آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه ، وسلك سبيلهم ، ويحتذي حذوهم ، حتى أكرمه الله بالشهادة التي شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها في كل موطن أخبر الناس أنه وأصحابه على الحق [ ص: 425 ] عند ظهور الفتن واختلاف الناس فيها - رضي الله عنه - .

              ثم استخلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وذلك بعد اتفاق المسلمين وفيهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أولو الأمر والنهي منهم أربعة الذين ليس لهم نظير في الأمة لهم في الهجرة ، والسابقة ، والنصرة ، والغناء في الإسلام مع تقديم الأمة في أمر دينهم ودنياهم ، ولا تنازع بين الأمة في ذلك ولا اختلاف ، وهم بقية العشرة الذين شهد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ، وقبض رسول الله وهو عنهم راض ، أهل بيعة الرضوان ، وأصحاب بدر وأحد وحراء ، وهم : علي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن مالك - رحمة الله عليهم - ، فلم يختلفوا أن عليا أعلى الأمة ذكرا ، وأرفعهم قدرا ، وأجلهم خطوا ، وأوسعهم علما ، [ ص: 426 ] وأعظمهم حلما ، وأفضلهم منزلة في الإسلام ، وهجرته ونصرته وسوابقه وحسن بلائه ، وعظيم غنائه ، وتقدمه في الفضل والشرف ، وفي كل مشهد كريم ومقام عظيم يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، ويحبه المؤمنون ، ويبغضه المنافقون ، شهد له بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا يقصر عن كل خطة رفيعة ومقام جليل ، لا ينقصه تقدم من تقدمه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل رفعته معرفته بفضل من قدمه على نفسه ، إذ كان ذلك موجودا فيمن هو أفضل منه قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من [ ص: 427 ] كلم الله ورفع بعضهم درجات . . . الآية ، ولم يكن فضل بعضهم على بعض بالذي يضع من دونه ، وكل الرسل صفوة الله وخيرته من خلقه وبريته ، - عليهم السلام - .

              فولي علي أمر المسلمين بعد إجماعهم عليه ، ورضاهم به ، فلم يختلف أحد من أهل العلم في علمه وعدله وزهده وحسن سيرته ، وأنه لم يعد سيرة أصحابه ، ولا حكم بغير حكمهم ، حتى قبضه الله إليه شهيدا ، - رحمه الله - من إمام هاد مهتد عالم مقسط ، رحمة الله عليه ورضوانه ، وأحيانا الله على اتباعهم ، والاهتداء بهديهم ، والاقتفاء لآثارهم ، والمحبة لهم ، والسلامة من خصوماتهم وتبعتهم ، إنه رحيم ودود فعال لما يريد . [ ص: 428 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية