الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء

      كلامه جل عن الإحصاء والحصر والنفاد والفناء     لو صار أقلاما جميع الشجر
      والبحر تلقى فيه سبعة أبحر     والخلق تكتبه بكل آن
      فنت وليس القول منه فان



      قال الله تبارك وتعالى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) ، ( الكهف : 109 ) ، وقال تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) ، ( لقمان : 27 ) .

      قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول الله - تعالى - مخبرا عن عظمته وكبريائه ، وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، [ ص: 256 ] وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها ، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك . فقال تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ، أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وأمده سبعة أبحر معه ، فكتبت بها كلمات الله - تعالى - الدالة على عظمته وصفاته وجلاله ، لتكسرت الأقلام ، ونفد ماء البحر ، ولو جاء أمثالها مددا ، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ، ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم ، كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، بل كما قال - تعالى - في الآيات الأخرى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) ، فليس المراد بقوله : ( بمثله ) آخر فقط ، بل بمثله ، ثم بمثله ، ثم بمثله ، ثم هلم جرا ; لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته .

      قال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله تعالى : إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحر ، وتكسرت الأقلام . وقال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) ، أي لو كان شجر الأرض أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ، ما كانت لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه . وقال الربيع بن أنس - رحمه الله : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية ، يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله ، والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ; لأن أحدا لا يستطيع أن يقدره قدره ، ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما يقول ، وفوق ما نقول .

      قال : وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود ، قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى : حدثني محمد بن [ ص: 257 ] أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن أحبار يهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة : يا محمد ، أرأيت قولك : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلاكما . قالوا : ألست تتلو فيما جاءنا ، أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم . وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية .

      وهكذا روي عن عكرمة ، وعطاء بن يسار ، وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية ، والمشهور أنها مكية ، والله أعلم .

      وقوله : ( إن الله عزيز حكيم ) ، أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه ، فلا مانع لما أراد ، ولا مخالف لأمره ، ولا معقب لحكمه ، حكيم في خلقه وأمره ، وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شئونه . انتهى .

      وعن جويرية - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة ، فقال : ما زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ قالت : نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم ، لوزنتهن : سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . رواه مسلم والأربعة ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة ؟ قال : أما لو قلت حين أمسيت [ ص: 258 ] : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر . والأحاديث في الباب كثيرة ، والمقصود أن كلمات الله باقية لا تنفد أبدا ، تامة لا تنقص أبدا ، وذلك لأن كلامه صفته ، وليس من صفاته شيء ينفد ، ولذا أخبرنا - تعالى - أن جميع أشجار الأرض لو كانت أقلاما ، والبحار وأضعافها مدادا ، يكتب بها كلماته ، لنفدت كلها وكلماته لا تنفد ، وذلك لأن الأشجار والبحار مخلوقة ، والمخلوقات من لازمها النفاد والفناء ، وكلمات الله صفته ، وليس من صفاته شيء يفنى ، بل هو الباقي بأسمائه وصفاته أزلا وأبدا ، ( كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) ، ( القصص : 88 ) .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية