الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 204 ] ( فصل ) قال السبكي رحمه الله : قول الوراقين في كتب الأوقاف : من مات قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وخلف ولدا استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى لو بقي حيا ، حتى يصير إليه شيء من منافع الوقف ، وقام في الاستحقاق مقامه - عبارة جرت على ألسنتهم وكتابتهم ، وهي تقتضي أن الولد إنما يستحق ما كان أبوه يستحقه لو بقي حيا ، إلى أن يصل إليه شيء من منافع الوقف ، فكيف يجعل الوصول شرطا أو بعض شرط ، وضرورة العبارة المذكورة جعله بعض شرط ؛ لأنه جعل وصفا للبقاء المقدر بعد ( لو ) غاية ، فهو جزء من الشرط ، وكان ينبغي أن لا يستحق بمقتضى العبارة المذكورة إلا شيئا ثانيا ، صيرورته مستحقا ، وهذا ليس بمراد ، وكأنهم أرادوا بالمصير إليه انتهاء الوقف إلى حالة لو بقي حيا فيها لاستحق ، فجعلوا ذلك مصيرا إليه وهو صفة للوقف وحال من أحوالها ، ولا يبعد أن يجعل علة وسببا وشرطا في استحقاقه الذي هو صفة له ويجعل هذا الاستحقاق معلولا عن الصفة ، واستعمال لفظة ( يصير ) في ذلك ، الظاهر أنها مجاز ؛ لأن حقيقة صيرورة شيء من المنافع إليه ، إنما هو باستحقاقه إياه ، فإذا فرضنا وفاة شخص آخر بعد ذلك لو كان هذا الذي استحق باقيا لاستحق نصيبه ، وحكمنا باستحقاق هذا الولد استحقاق ما لو كان والده حيا الآن لاستحقه ، كان استعمال لفظة ( يصير ) في حقه على سبيل الحقيقة ؛ لأنه صار إليه قبل ذلك شيء ، لكنا قد استعملناه في المعنى الأول مجازا ، فاستعماله في الثاني مع الأول جمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو مرجوح بالنسبة إلى المجاز المنفرد ، واستعماله في الثاني وحده وهو الحقيقة واطراح المجاز بالكلية يلزم عدم أخذه نصيب والده ، ولا قائل به ، ولا شك أنه ليس بمراد ، فيترجح الاقتصار على استعمال المجاز المنفرد ، ولا يستحق من الميت الثاني شيئا إلا بدليل منفصل ، والموجب للنظر في هذه المسألة : وقف على شخص ثم أولاده ، ثم أولادهم وشرط أن من مات من بناته انتقل نصيبها للباقين من أخواتها ، ومن مات قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وله ولد استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى لو كان حيا حتى يصير إليه من منافع الوقف ، وقام في الاستحقاق مقامه ، فمات الموقوف عليه وخلف ولدين وولد ولد مات أبوه في حياة والده ، فأخذ الولدان نصيبهما وهما ابن وبنت ، وأخذ ولد الولد النصيب الذي لو كان والده حيا لأخذه ، ثم ماتت البنت ، فهل يختص أخوها الباقي بنصيبها أو يشاركه فيه ابن أخيه ؟ تعارض اللفظان المذكوران ونظرنا فيه النظر المذكور ، ويرجحه أن التنصيص على الإخوة وعلى الباقين منهم ، كالخاص ، وقوله : ومن مات قبل الاستحقاق ، كالعام ، فيقدم الخاص على العام ، فلذلك ترجح عندنا اختصاص الأخ ، وإن كان [ ص: 205 ] الآخر محتملا ، وهو مشاركة ابن الأخ له ، والله أعلم ، ومن المرجحات أيضا أن قوله : يستحق ، مطلق ؛ لأنه فعل في سياق الإثبات لا عموم له ، والمطلق يكفي في العمل به صورة واحدة ، وقد عملنا به في استحقاقه نصيب والده ، فلا يعمل به في غيره ، وقوله : قبل استحقاقه شيئا ، يقتضي أنه لم يستحق شيئا أصلا ، وهو كذلك في حياة والده ، وقوله : استحق ولده ، فعل مطلق ، وقوله : ما كان والده يستحقه ، عام ؛ لأن ( ما ) للعموم ، وهذا العموم بالنسبة إلى جميع نصيب والده ، وهو معمول به فيه بالنسبة إلى ذلك النصيب وإلى نصيب من يموت بعد ذلك .

            ( فائدة ) قال البلقيني : الترتيب يستفاد من صريح مرة ، ومن ظاهر أخرى ، ومن محتمل بقرينة ، فمن الصريح : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، ومن الظاهر التعبير بـ ( ثم ) وأما المحتمل بالقرينة ، فكقوله : وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي ، فإذا انقرض أولادي فهو لأولاد أولادي ، فإن قوله : فإذا انقرض أولادي ، قرينة دالة على أنه أراد بالواو الترتيب .

            ( فائدة ) ومما أكد الترتيب في هذا السؤال الذي نحن فيه تعبيره أولا بـ ( ثم ) في قوله : ثم لأولادهم ثم لذريتهم ، وقوله : طبقة بعد طبقة ، فإن هذه الجملة مع التعبير بـ ( ثم ) تفيد الترتيب ، فلا يستحق أحد من الطبقة الثانية شيئا حتى تنقرض جميع الطبقة الأولى ، وهكذا في سائر الطبقات كما هو منقول في الشرح والروضة ، ومما يؤكد ذلك أيضا زيادة لفظة ( أبدا ) في قوله : تحجب الطبقة العليا منهم أبدا الطبقة السفلى ، فإنها تفيد أمرين : التأبيد والتأكيد ، فالتأبيد يفيد الاطراد في كل وقت وزمان ، فلا تحتمل الجملة معه التخصيص ، بخلاف ما سقطت منه ، فإنها تحتمل التخصيص ببعض الأشخاص في بعض الأحيان ، فالتأكيد يفيد دفع توهم عدم الشمول ، فيثبت الشمول المقصود هنا وهو حجب كل أعلى لكل أسفل شمولا حقيقيا لا يقبل التخصيص ببعض الأفراد ، وإلا لذهبت فائدة التأكيد .

            ( فائدة ) ومما يؤكد ذلك أيضا تنصيص الواقف على تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب وابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، فإذا كان الواقف لم يعط أهل الدرجة كلهم بل خص منهم الإخوة ولم يعط الإخوة كلهم بل قدم الأخ الشقيق على الأخ للأب مع أن أباهما واحد لأجل زيادة القرب بالأم ، فكيف يعطى من له أب آخر مع من هو أعلى من درجته ، فإن تمسك متمسك بقوله : ومن مات قبل الاستحقاق أقيم ولده مقامه ، قلنا : يلزمه أن يعطي الأخ للأب مع الأخ الشقيق ؛ لأن أباه بهذا الوصف فيقام ولده مقامه ، فإن قال في الجواب : وقفت مع نص الواقف على تقديم الشقيق وقدمته على عموم تلك الجملة ، قلنا له : فقف هنا مع نص الواقف على تقديم الأقرب إلى المتوفى وعلى حجب الطبقة العليا للسفلى وقدمه [ ص: 206 ] على عموم تلك الجملة ، فإما أن تسوي بينهما في المنع ، وإما أن تسوي بينهما في الإعطاء ، وإلا فالعمل بأحدهما دون الآخر تحكم .

            تقرير آخر بعبارة أخرى : يقال للمتمسك بعموم قوله : ومن مات قبل الاستحقاق أقيم ولده مقامه : القاعدة المقررة في الأصول " أنه إذا اجتمع نص خاص ولفظ عام ، فإنه يتمسك بالنص الخاص في تلك الصورة الخاصة ويخص به عموم اللفظ ، ويخرج من تلك الصورة الخاصة بذلك النص الخاص ، ويبقى بقية العموم يعمل به فيما عدا تلك الصورة ، وأما أن يلغى النص الخاص بالكلية ويتمسك بالعموم على عمومه فهذا شيء لا يقوله أحد ، وهذا الذي نحن فيه ، فيه ثلاثة نصوص خاصة ، أحدها تقديم الأقرب إلى المتوفى فالأقرب من الأولاد وأولادهم ، والثاني تقديم الإخوة من أهل الدرجة على غيرهم ، والثالث تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب وتقديم ابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، فهذه ثلاثة نصوص خاصة في صورة خاصة يتمسك بها فيها وتخص من عموم تلك الجملة ، ولا يعمل بتلك الجملة إلا فيما عدا هذه الصور الثلاث الخاصة ، فلا يعطى ابن العم للأب ولا الأخ للأب مع الشقيق منهما ، وإن كان أبوهما مات قبل الاستحقاق ، ولو عاش لاستحق ، ولا يقول قائل : أعطيهما مع الشقيق لأجل قوله : ومن مات قبل الاستحقاق أقيم ولده مقامه ؛ لأن هذه الصورة مخرجة بنص يخصها ، وكذلك لا يعطى سائر أهل الدرجة مع الإخوة ؛ تمسكا بذلك العموم ؛ لأنهم مخرجون بنص يخصهم ، وكذلك لا يعطى الأبعد من أولاد الأولاد مع الأقرب إلى المتوفى تمسكا بذلك العموم ؛ لأنه مخرج بنص يخصه ، فهذه الصور الثلاث يعمل بنصوصها الخاصة بها ويخرج من ذلك العموم وتبقى بقية ذلك العموم معمولا به فيما عداها ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية