الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : قوله تعالى : { محصنات غير مسافحات } : يعني عفائف غير زانيات . وقد استدل بها من حرم نكاح الزانية ، وهو الحسن البصري ، وقال إنه شرط في النكاح الإحصان وهو العفة ، وأيضا فإن الله تعالى قال في سورة النور : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } . وقالت طائفة : معنى قوله : محصنات ، أي بنكاح لا بزنى ، وهذا ضعيف جدا ; لأن الله تعالى قد قال قبل هذا : { فانكحوهن بإذن أهلهن } ، فكيف يقول بعد ذلك منكوحات ، فيكون تكرارا في الكلام قبيحا في النظام ، وإنما شرط الله ذلك صيانة للماء الحلال عن الماء الحرام ; فإن الزانية لا يجوز عندنا نكاحها حتى تستبرأ .

                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة والشافعي : يجوز نكاحها اليوم لمن زنى بها البارحة ، ولمن لم يزن بها مع شغل رحمها بالماء ، فهذه هي الزانية التي حرم الله نكاحها ; فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 514 ] أنه قال : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره } . وثبت عنه أنه قال : { لا توطأ حامل حتى تضع } ، ولا حائل حتى تحيض في وطء ونسب لهما حرمة .

                                                                                                                                                                                                              وذلك في وطء الكفار ; لكن إن لم يكن للماء المستقر في الرحم حرمة فللماء الوارد عليه حرمة ، فكيف يمتزج ماء بماء غير محترم ، وفي ذلك خلط الأنساب الصحيحة بالمياه الفاسدة . وأما قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية } ، فهي آية مشكلة ، اختلف فيها السلف قديما وحديثا ، والمتحصل فيها أربعة أقوال : الأول : أنه روي عن عبد الله بن عمر { أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه ، وكذلك كن نساء معلومات يفعلن ذلك فيتزوجن الرجل من فقراء المسلمين لتنفق المرأة منهن عليه ، فنهاهم الله عن ذلك } .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال ابن عباس ونحوه عن قتادة ومجاهد عن بغايا كن ينصبن على أبوابهن كراية البيطار ، وكانت بيوتهن تسمى المواخير ، لا يدخل إليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك ، فحرم الله ذلك على المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال سعيد بن جبير : لا يزني الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة ، ونحوه عن عكرمة .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال سعيد بن المسيب : نسخها قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } . وقال أنس : من أيامى المسلمين .

                                                                                                                                                                                                              وقد أكد رواية ابن عمر ما رواه الترمذي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : { كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجل يحمل الأسرى من مكة [ ص: 515 ] حتى يأتي بهم المدينة . قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق ، وكان صديقا لها ، وإنه واعد رجلا من أسرى مكة يحمله . قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت : مرثد ، فقلت : مرثد . فقالت : مرحبا وأهلا ، هلم فبت عندنا الليلة . قال : قلت : يا عناق ، حرم الله الزنا قالت : يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم وذكر الحديث . قال : حتى قدمت المدينة فقلت : يا رسول الله ، أأنكح عناق ؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا ، فنزلت : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا مرثد ، الزاني لا ينكح وقرأها إلى آخرها ، وقال له : فلا تنكحها } . فأما من قال : إنها نزلت في بغايا معلومات فكلام صحيح . وأما من قال : إن معناه الزاني لا يزاني إلا زانية فما أصاب فيه غيره ، وهي من علوم القرآن المأثورة عن معلمه المعظم ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : لا ينكح المحدود إلا محدودة ، وهو الحسن ، يريد أن معنى الآية : الزانية التي تبين زناها ، ويصح أن يخبر عنها به ; وذلك لا يكون إلا فيمن نفذ عليه الحد ; وقبل نفوذ الحد هي محصنة يحد قاذفها ، وهو الذي منع من نكاحها ومعه نتكلم وعليه نحتج .

                                                                                                                                                                                                              وإذا قال القائل : إن معناه إذا زنى بامرأة فلا يتزوجها فيشبه أن يكون قولا ، لكن مخرجه ما قدمناه من أن تحريم ذلك إنما يكون قبل الاستبراء ، وتكون الآية مسوقة لبيان أنه لا يسترسل على المياه الفاسدة بالنكاح إلا زان أو مشرك كما سبق ، أو يكون معناه ما اختاره عالم القرآن ; قال : المراد بالنكاح الوطء ، والآية نزلت في البغايا المشركات ; والدليل عليه أن الزانية من المسلمات حرام على المشرك ، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه المشركات ، فمعنى الآية أن الزاني لا يزني إلا بزانية [ ص: 516 ] لا تستحل الزنا أو بمشركة تستحله ، والزانية لا يزني بها إلا زان لا يستحل الزنا أو مشرك يستحله . وأما من قال : إن الآية منسوخة فما فهم النسخ ; إذ بينا أنه لا يكون إلا بين الآيتين المتعارضتين من كل وجه ; بل الآية التي احتج بها عاضدة لهذه الآية وموافقة لها ; لأن الله تعالى حرم نكاح الزناة والزواني ، وأمر بنكاح الصالحات والصالحين .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : هذه الآية وإن كانت بصيغة الخبر فكذلك هو معناها ، وهي خبر عن حكم الشرع ، فإن وجد خلاف المخبر فليس من الشرع على ما تقدم بيانه في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية