الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وفي هذه الغزاة ( سم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية قد سمتها ، وسألت : أي اللحم أحب إليه ؟ فقالوا : الذراع . فأكثرت من السم في الذراع ، فلما انتهش من ذراعها أخبره الذراع بأنه مسموم ، فلفظ الأكلة ثم قال : " اجمعوا لي من ها هنا من اليهود . فجمعوا له ، فقال لهم : إني سائلكم عن شيء ، فهل أنتم صادقي فيه ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أبوكم ؟ قالوا : أبونا فلان . قال : كذبتم ، أبوكم فلان . قالوا : صدقت وبررت . قال : هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " . قالوا : نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أهل النار ؟ فقالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخسئوا فيها ، فوالله لا نخلفكم فيها أبدا . ثم قال : هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ قالوا : نعم . قال : أجعلتم في هذه الشاة سما ؟ قالوا : نعم . قال : فما حملكم على ذلك ؟ قالوا : [ ص: 298 ] أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك ، وإن كنت نبيا لم يضرك ) .

( وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : أردت قتلك . فقال : ما كان الله ليسلطك علي . قالوا : ألا نقتلها ؟ قال : لا . ولم يتعرض لها ولم يعاقبها ) ، واحتجم على الكاهل ، وأمر من أكل منها فاحتجم ، فمات بعضهم ، واختلف في قتل المرأة ، فقال الزهري : أسلمت فتركها ، ذكره عبد الرزاق عن معمر عنه ، ثم قال معمر : والناس تقول : قتلها النبي صلى الله عليه وسلم .

قال أبو داود : حدثنا وهب بن بقية ، قال : حدثنا خالد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية . وذكر القصة وقال : فمات بشر بن البراء بن معرور فأرسل إلى اليهودية : ما حملك على الذي صنعت ؟ قال جابر : فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت )

قلت : كلاهما مرسل ، ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة متصلا ، أنه قتلها لما مات بشر بن البراء .

وقد وفق بين الروايتين بأنه لم يقتلها أولا ، فلما مات بشر قتلها .

وقد اختلف : هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أو لم يأكل ؟ وأكثر الروايات أنه أكل منها وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه : ( ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر ، فهذا أوان انقطاع الأبهر مني ) .

[ ص: 299 ] قال الزهري : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا .

قال موسى بن عقبة وغيره : وكان بين قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر تراهن عظيم ، وتبايع ، فمنهم من يقول : يظهر محمد وأصحابه ، ومنهم يقول : يظهر الحليفان ويهود خيبر ، وكان الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم وشهد فتح خيبر ، وكانت تحته أم شيبة أخت بني عبد الدار بن قصي ، وكان الحجاج مكثرا من المال ، كانت له معادن بأرض بني سليم ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال الحجاج بن علاط : إن لي ذهبا عند امرأتي ، وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي ، فأذن لي فلأسرع السير وأسبق الخبر ، ولأخبرن أخبارا إذا قدمت أدرأ بها عن مالي ونفسي . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم مكة قال لامرأته : أخفي علي واجمعي ما كان لي عندك من مال ؛ فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه ؛ فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم ، وإن محمدا قد أسر وتفرق عنه أصحابه ، وإن اليهود قد أقسموا لتبعثن به إلى مكة ثم لتقتلنه بقتلاهم بالمدينة ، وفشا ذلك بمكة ، واشتد على المسلمين وبلغ منهم ، وأظهر المشركون الفرح والسرور ، فبلغ العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم زجلة الناس ، وجلبتهم ، وإظهارهم السرور ، فأراد أن يقوم ويخرج فانخزل ظهره ، فلم يقدر على القيام ، فدعا ابنا له يقال له : قثم ، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل العباس يرتجز ويرفع صوته لئلا يشمت به أعداء الله :


حبي قثم حبي قثم شبيه ذي الأنف الأشم     نبي ربي ذي النعم
برغم أنف من رغم

[ ص: 300 ] وحشر إلى باب داره رجال كثيرون من المسلمين والمشركين ، منهم المظهر للفرح والسرور ، ومنهم الشامت المغري ، ومنهم من به مثل الموت من الحزن والبلاء ، فلما سمع المسلمون رجز العباس وتجلده ، طابت نفوسهم ، وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم ، ثم أرسل العباس غلاما له إلى الحجاج وقال له : اخل به وقل له : ويلك ما جئت به وما تقول ؟ فالذي وعد الله خير مما جئت به . فلما كلمه الغلام قال له : اقرأ على أبي الفضل السلام ، وقل له : فليخل بي في بعض بيوته حتى آتيه ؛ فإن الخبر على ما يسره . فلما بلغ العبد باب الدار قال : أبشر يا أبا الفضل . فوثب العباس فرحا كأنه لم يصبه بلاء قط حتى جاءه وقبل ما بين عينيه ، فأخبره بقول الحجاج فأعتقه ، ثم قال : أخبرني . قال : يقول لك الحجاج : اخل به في بعض بيوتك حتى يأتيك ظهرا . فلما جاءه الحجاج وخلا به أخذ عليه لتكتمن خبري ، فوافقه عباس على ذلك ، فقال له الحجاج : جئت وقد افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغنم أموالهم ، وجرت فيها سهام الله ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى صفية بنت حيي لنفسه وأعرس بها ، ولكن جئت لمالي أردت أن أجمعه وأذهب به ، وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول ، فأذن لي أن أقول ما شئت ، فأخف علي ثلاثا ثم اذكر ما شئت .

قال : فجمعت له امرأته متاعه ، ثم انشمر راجعا ، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال : ما فعل زوجك ؟ قالت : ذهب ، وقالت : لا يحزنك الله يا أبا الفضل ، لقد شق علينا الذي بلغك . فقال : أجل ، لا يحزنني الله ، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحب ، فتح الله على رسوله خيبر وجرت فيها سهام الله ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه ، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به . قالت : أظنك والله صادقا . قال : فإني والله صادق والأمر على ما أقول لك . قالت : فمن أخبرك بهذا ؟ قال : الذي أخبرك بما أخبرك . ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش ، فلما رأوه قالوا : هذا والله التجلد يا أبا الفضل ، ولا يصيبك إلا خير . قال : أجل ، لم يصبني إلا خير ، والحمد لله أخبرني الحجاج بكذا وكذا ، وقد سألني أن أكتم [ ص: 301 ] عليه ثلاثا لحاجة ، فرد الله ما كان للمسلمين من كآبة وجزع على المشركين ، وخرج المسلمون من مواضعهم حتى دخلوا على العباس ، فأخبرهم الخبر ، فأشرقت وجوه المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية