الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة : قوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } إلى قوله سبحانه وتعالى : { الثلث } قال علماؤنا : سوى الله سبحانه وتعالى بين الأبوين مع وجود الولد ، وفاضل بينهما مع عدمه في أن جعل سهميهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، والمعنى فيه أنهما يدليان بقرابة واحدة وهي الأبوة ، فاستويا مع وجود الولد ; فإن عدم الولد فضل الأب الأم بالذكورة والنصرة ووجوب المؤنة عليه ، وثبتت الأم على سهم لأجل القرابة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة العاشرة : إذا اجتمع الآباء والأولاد قدم الله الأولاد ; لأن الأب كان يقدم ولده على نفسه ، ويود أنه يراه فوقه ويكتسب له ; فقيل له : حال حفيدك مع ولدك كحالك مع ولدك .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الحادية عشرة : قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } يقتضي أنه لا وارث له ، مع عدم الأولاد إلا الأبوان ; فكان ظاهر الكلام أن يقول : فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمه الثلث ، ولكنه أراد زيادة الواو ليبين أنه أمر مستقر خبر عن ثبوته واستقراره ; لأن الأولاد أسقطوا الإخوة ، وشاركهم الأب ، وأخذ حظه من أيديهم ; فوجب أن يسقط من أسقطوا ، بل أولى ، وأيضا فإن الأخ بالأب يدلي فيقول : أنا ابن أبيه ، فلما كان واسطته وسببه الذي يريد أن يأخذ به هو الأب كان سببه أولى منه ومانعا له ; فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الوالدين للذكر مثل حظ الأنثيين كما تقدم بيانه ، ويجتمع بذلك للأب فرضان : السهم ، والتعصيب ، وهذا عدل في الحكم ظاهر في الحكمة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية عشرة : قوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } المعنى إن وجد له إخوة فلأمه السدس ، وإن لم يكن لهم شيء من الميراث فهم يحجبون ولا يرثون بظاهر هذا اللفظ ، بخلاف الابن الكافر ، على ما يأتي بيانه إن شاء [ ص: 440 ] الله تعالى ، وكان دليل ذلك ، وعاضده ، وبسطه أن قوله تعالى : { فإن كان له إخوة } معطوف على ما سبق ، فصار تقدير الكلام : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، والباقي للأب ، وإن كان له إخوة فلأمه السدس ، والباقي للأب ، وهكذا يزدوج الكلام ويصح الاشتراك الذي يقتضيه العطف . فإن قيل : إنما تقدير الكلام فإن كان له إخوة ولا أب له فلأمه السدس . قلنا : هذا ساقط من أربعة أوجه : أحدها : أنه تبطل فائدة العطف .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه إبطال لفائدة الكلام من البيان ، فإنا كنا نعطي بذلك الأم السدس ، وما ندري ما نصنع بباقي المال ؟ فإن قيل : يعطي للإخوة . قلنا : وهم من ؟ أو كيف يعطي لهم ؟ فيكون القول مشكلا غير مبين ولا مبين ، وهذا لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه كان يبقى قسم من الأقسام غير مبين ، وهو إن كان له إخوة وله أب وأم فاعتباره بالبيان أولى ، وما صوروه من أم وإخوة قد بين في قوله : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } وهذا من نفيس الكلام ، فتأملوه .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه تبين هاهنا فائدتان : إحداهما : حجب الأم بالإسقاط لهم . الثاني : حجب النقصان للأم .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة عشرة : قوله تعالى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } هذا قول يقتضي بظاهره أنه إذا كان له ثلاثة إخوة أنهم يحجبونها حجب نقصان بلا خلاف ، وإن كانا أخوين فروي عن ابن عباس أنهما لا يحجبانها ; وغرضه ظاهر ; فإن الجمع خلاف التثنية لفظا وصيغة ، وهذه صيغة الجمع فلا مدخل لها في التثنية . [ ص: 441 ]

                                                                                                                                                                                                              ومن يعجب فعجب أن يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن ودليل التأويل عبد الله بن عباس مسألتان : إحداهما هذه المسألة ، والأخرى مسألة العول ; وعضد هذا الظاهر بأن قال : إن الأم أخذت الثلث بالنص ، فكيف يسقط النص بمحتمل . وهذا المنحى مائل عن سنن الصواب . ولعلمائنا في ذلك سبيل مسلوكة نذكرها ونبين الحق فيها إن شاء الله ، وذلك من ثلاثة أوجه : الأول : أنه ينطلق لفظ الإخوة على الأخوين ; بل قد ينطلق لفظ الجماعة على الواحد ، تقول العرب : نحن فعلنا ، وتريد القائل لنفسه خاصة .

                                                                                                                                                                                                              وقد قال تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } وقال : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } ثم قال : { خصمان بغى بعضنا على بعض } وقال : { فقد صغت قلوبكما } وقال : { وكنا لحكمهم شاهدين } وقال : { بم يرجع المرسلون } والرسول واحد . وقال تعالى : { أولئك مبرءون مما يقولون } يعني عائشة ، وقيل عائشة وصفوان . وقال : { وألقى الألواح } وكانا اثنين كما نقل في التفسير . وقال : { وأطراف النهار } وهما طرفان . وقال : { إنا معكم مستمعون } وقال : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وقال : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } وكان واحدا . وهذا كله صحيح في اللغة سائغ ، لكن إذا قام عليه دليل ; فأين الدليل ؟ .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن الله تعالى قال في ميراث الأخوات : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } فحمل العلماء البنتين على الأختين في الاشتراك في الثلثين ، وحملوا الأخوات على البنات في الاشتراك في الثلثين ، وكان هذا نظرا دقيقا [ ص: 442 ] وأصلا عظيما في الاعتبار ، وعليه المعول ، وأراد الباري بذلك أن يبين لنا دخول القياس في الأحكام .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن الكلام في ذلك لما وقع بين عثمان وابن عباس ; قال له عثمان : إن قومك حجبوها يعني بذلك قريشا ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وهم المخاطبون ، والقائمون لذلك ; والعاملون به ; فإذا ثبت هذا فلا يبقى لنظر ابن عباس وجه ; لأنه إن عول على اللغة فغيره من نظائره ومن فوقه من الصحابة أعرف بها ، وإن عول على المعنى فهو لنا ; لأن الأختين كالبنتين كما بينا ، وليس في الحكم بمذهبنا خروج عن ظاهر الكلام ; لأنا بينا أن في اللغة واردا لفظ الاثنين على الجميع .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية