الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : واختلف العلماء في المراد بالكلالة على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أن قوما اختاروا أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ; وهو قول أبي بكر الصديق ، وإحدى الروايتين عن عمر .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : من لا ولد له وإن كان له أب أو إخوة . الثالث : قول طريف لم يذكر في التقسيم الأول ; وهو أن الكلالة المال . فأما من قال : إنه المال ، فلا وجه له . وأما من قال : إنه الذي ذهب طرفاه الأسفل فمشكل تحقيق القول فيه ; وذلك أن عمر أشكلت عليه هذه الآية حتى ألحف على [ ص: 450 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانها ; فقال له : { ألا تكفيك آية الصيف } يعني الآية التي أنزلت في آخر النساء .

                                                                                                                                                                                                              وروى معدان بن أبي طلحة قال : خطب عمر بن الخطاب يوم الجمعة فقال : إني لا أدع بعدي شيئا هو أهم عندي من الكلالة . وفي رواية : أهم عندي من الجد والكلالة وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال : { يا عمر ; أما تكفيك آية الصيف } يعني الآية التي في آخر سورة النساء . قال وإن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن . فإذا كان هذا أمرا وقف في وجه عمر فمتى يسفر لنا عنه وجه النظر ؟ لكن الآن نرد في اقتحام هذا الوعر بنية وعلم ، فنقول فيهما والله الموفق المنعم : إن الكلالة وإن كانت معروفة لغة متواردة على معان متماثلة ومتضادة فعلينا أن نتبصر مواردها في الشريعة فنقول : وردت في آيتين : إحداهما هذه ، والأخرى التي في آخر سورة النساء كما تقدم ، فأما هذه فهي التي لا ولد فيها ولا والد وفيها إخوة لأم . وأما التي في آخر سورة النساء فهي التي لا ولد ذكرا فيها ، وهم إخوة لأب وأم أو إخوة لأب أو أخوات لأب وأم وجد ، فجاءت هذه الآية لبيان حال الإخوة من الأم ، وجاءت في آخر سورة النساء لبيان إخوة الأعيان والعلات حتى يقع البيان بجميع الأقسام ، ولو شاء ربك لجمعه وشرحه .

                                                                                                                                                                                                              وكان عمر يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم النص القاطع للعذر ، وهو عليه السلام يحمله على البيان الواقع مع الإطلاق الذي وكل فيه إلى الاجتهاد بالأخذ من اللغة ومقاطع القول ومرابط البيان ومفاصله . [ ص: 451 ]

                                                                                                                                                                                                              وهذا نص في جواز الاجتهاد ونص في التكلم بالرأي المستفاد عند النظر الصائب . وإذا ثبت فيه النظر فإنه يصح في ذلك أن معنى الكلالة من " كل " أي بعد ، ومن " تكلل " أي أحاط على معنيين : أحدهما : أن يكون على معنى السلب ، كما يقال فاز في المفازة أي انتفى له الفوز .

                                                                                                                                                                                                              والثاني : أن الإحاطة وجدت مع فقد السبب الذي يقتضي الإحاطة وهو قرب النسب .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : إنما قلنا : إن الكلالة في هذه الآية فقد الابن والأب ; لأن الإخوة للأم يحجبون بالجد ، وهم المرادون في الآية بالإخوة إجماعا ، ودخل فيها الجد الخارج عن الكلالة ; لأنه أصل النسب كالأب المتولد عنه الابن .

                                                                                                                                                                                                              وأما الآية التي في آخر سورة النساء فقد قال المحققون من علمائنا : إن الجد أيضا خارج عنها ; لأن الأخت مع الجد لا تأخذ نصفا ; إنما هي مقاسمة ، وكذلك الأخ مقاسم لها . فإن قيل : فلم أخرجتم الجد عنها ؟ قلنا : لأن الاشتقاق يقتضي خروجه عنها ; إذ حقيقة الكلالة ذهاب الطرفين ، وعليه مبنى اللغة ، وغير ذلك من الأقوال بعيد ضعيف . وأفسدها قول من قال : إنه المال ، فإنه غير مسموع لغة ولا مقيس معنى .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن الجد يرث مع ذكور ولد المتوفى في السدس ، والإخوة لا يرثون معهم ، فكيف يشارك من يسقط الإخوة كلهم ويكون كأحدهم . ولهذه العلة قال حبر الأمة مالك بن أنس : إن امرأة لو ماتت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وإخوتها لأمها وجدها : إن النصف للزوج ، والسدس للأم فريضة ، وللجد ما بقي ; قال : لأن الجد يقول : لو لم أكن كان للإخوة للأم ما بقي ، ولا يأخذ الإخوة للأب شيئا ، فلما حجبت إخوة الأم عنه كنت أنا أحق به . [ ص: 452 ] وقد روي عن مالك أنه جعل للجد السدس ، وللإخوة للأب السدس كهيئة المقاسمة ، وذلك محقق في الفرائض .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية