الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أشعر بالانطفاء وكلما حاولت النهوض سقطت من جديد!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لا أدري من أين أبدأ، أشعر بأنني أسقط إلى الهاوية، وأشعر بالضياع.

بدأت الأمور منذ ثلاث سنوات تقريبًا، فقد وقعت في معصية، وكنت في آخر سنة في حياتي المدرسية، فأدى ذلك إلى أن أحصل على معدل خيب ظني، وظن أهلي، لم أتوقعه أبدًا، ولكن كان نتيجة أفعالي، ودخلت الجامعة، وها أنا مقبلة على السنة الثالثة -والحمد لله، ولكن المعصية ما زالت في حياتي، لم أستطع ذكرها خجلاً من نفسي.

تغيرت كثيرًا، لم أعد مفعمةً بالحيوية والنشاط، ولم أعد محبةً للجميع. لا أدري كيف أرتب كلامي! ولكن درجاتي متدنية، وأنا حاليًا في عطلة الصيف، أجلس طول اليوم بدون فائدة، وصلواتي سريعة، ولا تليق بوجه الله جل جلاله، وكلما حاولت النهوض سقطت من جديد، وعدت إلى المعصية، ولا أدري ماذا أفعل!

أتخيل تخيلات لا تمت للواقع بصلة، وقصصًا، وأحداثًا، وأتعلق بأشخاص عابرين في حياتي، وهذا الموضوع أرهقني جدًا.

عجزت عن أن أعرف ما الذي أمر به في كل شيء حرفيًا، ولا توجد عندي طاقة لحياتي، ولا لعباداتي، وقد نويت حفظ كتاب الله، وحفظت بضع صفحات فعلاً، ولكني توقفت، ولم أعد أستطيع التركيز في الأذكار، وكذلك الصلوات، وتفوتني صلاة الفجر دائمًا، ولا أتحدث مع أحد، وأواجه مشاكل كثيرة مع عائلتي، ولا أفضفض لأحد بالرغم من وجود صديقات أأتمنهن على كل شيء، لكنني لا أستطيع.

كلامي مضطرب جدًا، ولا أستطيع انتشال نفسي، حاولت كثيرًا، ولكن سرعان ما أتوقف، ولزمت الدعاء فترةً، ولاحظت بشكل غير معقول أثره علي خلال أيام، ولكن أعود إلى نفس النقطة.

المشكلة أنني تذوقت طعم الراحة والسعادة في العبادات كلها، لكنني أتوقف، لا أدري ماذا أفعل! وكل من حولي يشعر بانطفائي، فالموضوع ملاحظ، ولا أريد أن أستمر على هذا الحال.

كان لدي الكثير من الخطط للعطلة، ولكني لم أفعلها، ويوجد لدي مشروع صغير تركته، ودائمًا أشعر بالغضب، وأحزن من حولي.

تحدثت كثيرًا، وأشعر بالعجز الشديد جدًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ لارا حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بدايةً: نشكر لك -أختنا الكريمة- ثقتك بموقع إسلام ويب، وحرصك على طلب الاستشارة، ونسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسناتك.

نحن نقدر مشاعرك حق قدرها، ونعلم ما تمرين به من صراع داخلي بين نوازع الخير والشر في النفس البشرية.

إن الضمير الحي يتألم عند ارتكاب المعصية، ولكن من رحمة الله الواسعة أن باب التوبة مفتوح، وهو سبحانه قريب يجيب دعوة من دعاه، كما قال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]

وما من ذنب إلا وله توبة صادقة، تحتاج إلى ندم صادق، وإقلاع عن المعصية، وعزم أكيد على عدم العودة إليها.

لقد ذكرتِ أنك حاولتِ أكثر من مرة ترك المعصية، ولكن الشيطان يغلبك، وهذا ما سبب لك حيرةً وشعورًا بالضياع، واعلمي أن استمرار المعصية يمثل عقبةً أمام نيل السكينة، والرضا النفسي، وأن الطريق إلى الراحة الحقيقية يبدأ بترك الذنب، والعودة إلى الطاعة، وهذا ما سنحاول مساعدتك فيه من خلال خطوات عملية تعينك –بإذن الله– على الثبات.

كما أشرتِ إلى أنك حاولتِ استثمار وقتك في حفظ كتاب الله، وهذا دليل على أنك تمتلكين القدرة والإرادة، لكنك بحاجة إلى قرار جاد، واستمرارية، وصحبة صالحة تعينك.

لقد ذقتِ حلاوة الطاعة والمناجاة، ولكن سرعان ما تضعف النفس أمام وساوس الشيطان؛ لعدم الاستعانة بمن حولك من أهل الدعم والنصح، وإن تواصلك الآن، وطلبك الاستشارة يُعد خطوةً مباركةً نحو الحل.

اعلمي أن الإصرار على المعصية، والتقصير في العبادات يولدان ضيقًا في الصدر، وقلقًا في النفس، وينعكسان سلبًا على علاقاتك مع الأهل، والأصدقاء، كما أن عدم مصارحة من تثقين به يزيد من الضغوط النفسية، ويؤدي إلى اضطراب في حياتك، ومشاريعك، ويزيد من حدة الحزن الذي يشعر به من حولك.

وأولى خطوات الإصلاح هي الاعتراف بالمشكلة، والاستعداد لتقبّل الحلول، ومجاهدة النفس لتطبيقها، أما الاكتفاء بالندم، والشعور بالذنب دون عمل، فإنه يعيق التغيير المنشود، واعلمي أن النبي ﷺ قال: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» [رواه الترمذي]؛ فالطاعات تقود بعضها بعضًا، وتزيد القلب نورًا ولذةً، وتساعدك –بإذن الله– على استبدال المعصية بطاعة تملأ قلبك حلاوة وإيمانًا.

وإليكِ –أختنا الكريمة– مجموعةً من الخطوات العملية التي تعينك على مواجهة هذه المعاناة، وتُسهم في الوصول إلى حلول ترضي الله تعالى، وتحقق لك السكينة، والرضا النفسي، وتتمثل فيما يلي:

1- صدق التوبة، وتجديد النية: بأن تستحضري في قلبك عظمة الله ورحمته، وتستشعري أنه يفرح بتوبتك، واعقدي نيةً جازمةً أن هذه المرة لن تعودي للذنب مهما كانت وساوس الشيطان، وأكثري من دعاء: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

2- تحصين القلب ضد الانتكاس: فعليك بالابتعاد عن كل وسيلة أو مكان يذكرك بالمعصية، وحاولي أن تغيّري البيئة بإزالة ما يثير الضعف من هاتفك، أو محيطك، والتزمي بمبدأ "الهروب من مواضع الفتنة".

3- التزمي بصحبة صالحة وداعمة: واحرصي على صديقة أو مجموعة من الأخوات الصالحات يشجعنك على حفظ القرآن، وحضور دروس العلم، وشاركي في حلقة ذكر، أو حفظ، ولو أونلاين؛ فالصحبة تعينك كثيرًا على الثبات.

4- استثمار الوقت بالأعمال النافعة: بأن تخصصي ساعةً أسبوعيًا لعمل نافع كقراءة كتاب إسلامي، وتعلم مهارة، أو خدمة لأهلك؛ فكل دقيقة مشغولة بالطاعة تقل فيها فرص الشيطان أن يوسوس لك.

5- التوبة المستمرة، وعدم اليأس: إذا ضعفتِ يومًا ما، فلا تيأسي، ولا تتوقفي، وعليك البدء من جديد فورًا، وتذكري قول الله -عز وجل-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) الزمر:53.

6- ومن أهم التوصيات النفسية والسلوكية (المستندة إلى مبادئ العلاج المعرفي السلوكي):
• تغيير البيئة المحفّزة على المعصية: وذلك بتجنب الأماكن والأوقات التي ترتبط بوقوع الذنب، أو تثير التفكير فيه، مع الحرص على استبدالها ببيئات نقية، محفزة على الطاعة، والأنشطة المفيدة.

• تخلصي من أي مؤثرات، أو تطبيقات إلكترونية، أو أشخاص يدفعونك للعودة للذنب.

• التفكير الاستباقي: عندما تأتيك الفكرة، قولي لنفسك: "هذا ابتلاء واختبار، وأنا أقوى بالله"، ثم قومي بعمل آخر؛ لصرف ذهنك خلال أول 5 دقائق.

• التعزيز الإيجابي: احتفلي بالنجاحات الصغيرة (يوم بلا معصية = كتابة دعاء شكراً لله).

• إدارة الوقت: ضعي جدولاً يومياً من 3 فترات: عبادة – عمل/دراسة – راحة/هوايات.

• ممارسة الرياضة، وتمارين التنفس: تساعد على تخفيف التوتر والقلق الذي قد يقود إلى الانتكاس.

7- الدعم الاجتماعي والروحي:
• تحدثي مع شخص تثقين به (صديقة صالحة، أو مستشارة)؛ لتكون داعمةً لك في لحظات الضعف.
• تابعي برامج أو محاضرات إيمانية: (مثل دروس لشيخ من الثقات، أو برامج تزكية النفس).
• احرصي على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية، والأعمال التطوعية، سواءً ضمن محيط العائلة، أو في المناسبات المجتمعية؛ فالتفاعل مع الآخرين يعزز الشعور بالانتماء، ويشغل الذهن عن الأفكار السلبية، ويقوي الدعم النفسي، والإيماني.

8- عمل خطة يومية للعبادات من خلال ورد محاسبة ذاتي يشمل:
• أداء الصلاة في وقتها: التزمي بأداء كل صلاة في وقتها مهما كانت الظروف؛ فهي أعظم ما يقوي صلتك بالله.
• ورد يومي قصير من القرآن الكريم: احرصي على تلاوته بتدبر، وجدول للحفظ، مع استحضار نية الهداية والنور.
• أذكار الصباح والمساء: بأن تخصصي 5 دقائق صباحًا، و5 دقائق مساءً لقراءة الأذكار المأثورة؛ فهي درع واقٍ للقلب.
• دعاء ثابت بعد كل صلاة: اجعلي دعاء: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ملازمًا لك بعد التسليم من كل صلاة.

نسأل الله لكِ الهداية والثبات، وأن يكتب لكِ بدايةً صادقةً للتغيير نحو الأفضل، وأن يملأ قلبكِ نورًا وسكينةً، ويرزقكِ التوفيق لما يحب ويرضى.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً