الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نوى أفعالا من الخير فعجز عنها لخسارة ألمت به

السؤال

يوجد شخص مقتدر كان يقوم بأعمال خيرية وكان ينوي أعمالا كثيرة وبدأ في التنفيذ وكل ذلك براً بوالديه ولكسب الحسنات له ولأولاده وزوجته، ولكن انقلب الحال لتعرضه لخسارة قاسية جدا جعلته يبحث عن ما يكفيه هو وأبناءه بدون أي كماليات، سؤالي هو: هل سيجزى هذا الشخص بحسب ما كان ينوي عمله من فعل الخير إن كان صادقاً؟ وما الحكم في تقشفه مستقبلاً حتى لو عاد كما كان مقتدرا ومقللاً للأعمال الخيرية التي نوى بها سابقا تحسباً لأي ظرف مشابه لا سمح الله؟ وهل هناك نسبة معينة من مبالغ فاعل الخير تخرج لأعمال الخير مثلا بحيث أن لا تتجاوز نسبة معينة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد دلت الأدلة الشرعية على أن لنية العمل الصالح والعزم عليه شأناً وفضلاً عظيماً، وأن من نوى عمل الخير وعزم عليه فإنه يؤجر بحسب نيته، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عن رَبِّهِ عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلك، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله له عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هو هَمَّ بها وعملها كَتَبَهَا الله له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سبعمائة ضِعْفٍ إلى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله له عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله له سَيِّئَةً وَاحِدَةً. فدل الحديث على أن من عزم على فعل طاعة وعقد قلبه على ذلك كتبها الله تعالى حسنة كاملة.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال الطوفي: إنما كتبت الحسنة لمجرد الإرادة، لأن إرادة الخير سبب إلى العمل، وإرادة الخير خير، لأن إرادة الخير من عمل القلب. انتهـى.

والمقصود بالهم هنا: العزم المؤكد والحرص على الفعل .

ومن ذلك ما رواه الترمذي عن أبي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ. قال: ما نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ من صَدَقَةٍ، ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عليها إلا زَادَهُ الله عِزًّا، ولا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إلا فَتَحَ الله عليه بَابَ فَقْرٍ أو كَلِمَةً نَحْوَهَا، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قال: إنما الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فيه رَبَّهُ، وَيَصِلُ فيه رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله عِلْمًا ولم يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يقول: لو أَنَّ لي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بنيته، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالًا ولم يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فيه رَبَّهُ، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَهُ، ولا يَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِل.ِ وَعَبْدٍ لم يَرْزُقْهُ الله مَالًا ولا عِلْمًا، فَهُوَ يقول لو أَنَّ لي مَالًا لَعَمِلْتُ فيه بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بنيته، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. قال الترمذي : هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (فهو بنيته) أي يؤجر على حسبها. (فأجرهما سواء) أي فأجر من عقد عزمه على أنه لو كان له مال أنفق منه في الخير وأجر من له مال ينفق منه سواء. انتهـى .

ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غَزَاةٍ فقال: إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا ما سَلَكْنَا شِعْبًا ولا وَادِيًا إلا وَهُمْ مَعَنَا فيه حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: وفى هذا الحديث فضيلة النية فى الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات، فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه. انتهـى .

وقال الحافظ ابن حجر في فتح البارى: وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل. انتهـى .

أما الإنفاق على الزوجة والأولاد فهو واجب على الرجل، لقول الله تعالى: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ{ البقرة:233}

وقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا{ الطلاق:7}

والنفقة على الأهل أعظم أجرا من جميع الصدقات فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ على مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ على أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الذي أَنْفَقْتَهُ على أَهْلِكَ. رواه مسلم. وراجع في ذلك في فتوانا رقم : 54907 .

وإذا أيسر هذا الرجل فالأولى له ألا يتوقف عن عمل الخير، فإن الصدقة وعمل الخير من أساب البركة في المال، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أنه ما نقص مال من صدقة، كما أن الأولى أن يعتدل في نفقته على نفسه وأسرته بلا بخلٍ ولا سرف، وله أن يحتفظ بجزء من المال خشية التعرض للخسائر ويتصدق بجزء، كما أن عمل الخير ليس فيه نسبة معينة لإخراج المال، والأولى في ذلك أن يتوسط المسلم فيه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني