الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كره الوساوس والنفور منها علامة على صحة الاعتقاد

السؤال

أستسمحك أن تقرأ سؤالي كله، وأنا آسف إن كان طويلا عليك لكني محتاجك والله.
أنا مشكلتي كبيرة جدا، وهي الأول لما ابتدأت أدخل في طريق ربنا قطعت شرب السجائر، بعد كدة انقطعت عن التفرج على الأفلام الإباحية، وانقطعت عن المشي مع البنات وشرب الخمر وأصحاب السوء.
ولكن في أثناء هذا تأتيني وساوس عظيمة فتركتها توسوس وبعد ذلك بدأت أحس أن عدم اهتمامي بها وعدم ضيق صدري بل انشراح صدري لما أسمعه هو الذي جعلني أتتبعها، بل أنا نفسي تحدثى بأشياء سيئة أنا عارف أنا ممكن أخلد في النار بسبب هذا، لكن ماذا أعمل؟ هل سأتحكم فيها؟ يعنى مثلا أصبح خلقي ضيقا ولم يتسع صدري، وكل ما يحصل أمر سيئ نفسي تنسبها إلى الدين فتسب الدين.
بل أسمع كثيرا في نفسي سب الدين ولا أعرف ماذا أفعل، بل أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حتى وصلت أني اغتسلت غسل الإسلام ونطقت بالشهادة للدخول فيه مرة أخرى، وحتى في الصلاة نفسي أحيانا تسب الدين، وأنا أصلي، وكل هذا في السر لكني أقول يا رب أنا بريء مما تحدثنى به نفسي، وأنا غير راض به، بل الغضب والانفعال والأشياء التي أكرهها تجعل نفسي تفعل ذلك دون أن أدري.
يأتي الشيطان أو نفسي أثناء الصلاة يذكرني بشيء أكرهه جدا وينسبه إلى صورة الإسلام فيجعلني أكره ذلك فنفسي تسب الدين، ولكن أقول لا، أنا أقصد شيئا آخر، وليس الدين، لكن نفسي سيئة.
وبعد لما أسمع سب الدين قلبي ينقبض وأحس أني مختنق وغير قادر على التنفس، وكأنى عملت ذنبا كبيرا أو جرم في الإسلام كبير، فأروح وأشهد الشهادتين وأعيد الصلاة مرة ثانية، فيرتاح قلبي ويتسع مرة أخرى فأعيد الصلاة وهكذا، حتى أكره إعادة الصلاة، فأكره صورة الاسلام عن الصلاة فتقوم نفسي بسب الدين لأني أحس ثانية أني مخنوق فأقول لا يارب أنا آسف وأعتذر إليك.
أنا في عذاب ياشيخ لكن مع كل هذا أحافظ على صلواتي لكن أقول في نفسي إنى عدت إلى ربنا فلماذا ربنا لا يساعدنى ويغير حالي مرة واحدة، إنه رحيم لماذا لم يرحم ما بى ويريحني من هذه الافكار؟ فهو قادر على كل شيء، وأقرب مني، وأعلم بي من نفسي، لماذا لم يساعدنى ويخلصنى مما أنا فيه؟ أنا عارف أني ظلمت نفسي. وربنا فعلا رحيم وأنا دعوته أول ما دخلت الإيمان أن أرزق صحبة طيبة، ووالله ياشيخ ربنا كان يستجيب وبعثهم إلى من حيث لا أدرى وبدون تخطيط مني ولا سعي، لكن بعد ذلك الوساوس لم تفارقني، وأرجو أن لا أكون جحودا لما أنعم به الله علي. لماذا ربي لم يغير دماغي ويرحمنى وينسينى الوساوس ولا يجعلني أسترسل معها؟ لماذا لم يعصمني ويترك وساوسى تلهمنى وتحدثنى بالكفر؟
وبعد ذلك أرى الناس ومشكلة السكن والزواج وكثرة الفواحش فأقول لماذا ربنا يتركهم هكذا لا يجدون شققا من غلو المعيشة؟ لماذا لا يرحمهم الله وييسر على الشباب؟ أنا عارف أن غير القادر على تكاليف الزواج يصوم لكن ربنا رحيم فلماذا لم يرحمهم؟ لماذا سيزيل الله ما في قلوب الناس من غل وحقد وحسد في زمن سيدنا عيسى كما في علامات الساعة الكبرى، حيث قال الرسول: طوبى لمن يعيش في زمن المسيح. ولماذا ليس الآن والناس في أشد الحاجة لذلك حيث أرى الناس يتركون المشروع الذي هو الزواج ويذهبون للرخيص. لماذا ييسر الله الأمر ولو للذين يريدون الحلال؟ فلماذا يتركهم الله؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فهنيئا لك توبتك وإقلاعك عن هذه المحرمات. ونسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمته وهدايته، وأن يفيض عليك من فضله ورحمته.

ثم اعلم أخي الكريم أن ما ذكرته في مطلع كلامك بقولك: (عدم ضيق صدري بل انشراح صدري لما أسمعه). ليس موافقا للواقع، بل هذا نفسه من الوسوسة التي يريد الشيطان أن يحزنك بها، وكل ما ذكرته في كلامك يدل على ذلك، فأنت بحمد الله كاره تمام الكره لهذه الوساوس، وخائف منها خوفا حقيقيا، ونفورك منها ظاهر جلي .. تنبئ بهذا كل عبارات سؤالك، ابتداء من وصفك لهذه الوساوس بالسوء، واعترافك أن مؤداها يستوجب عذاب الله والخلود في النار. ومن ذلك قولك: (يا رب أنا بريء مما تحدثني به نفسي). ووصف حالك حين سماع ذلك بقولك: (قلبي ينقبض وأحس أني مخنوق .. ) الخ .

وشيء آخر لابد من التنبه له، وهو أن ما يشكوه السائل من السب إنما هو حديث نفس ووسوسة صدر، دون نطق اللسان، وهذا معفو عنه بفضل الله تعالى، إذ لا طاقة للعبد على إزالة أصله ومنع مبدئه، وإنما يستطيع فقط مدافعته بعد حصوله، فالوسوسة وحديث النفس شيء يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، ومن فضل الله تعالى ورحمته أنه تجاوز عن ذلك ما لم يعمل به العبد أو يتكلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم. رواه البخاري ومسلم.

قال النووي في (الأذكار): الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل. قال العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقر. قالوا: وسواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفرا أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خطران من غير تعمد لتحصيله ثم صرفه في الحال فليس بكافر ولا شيء عليه اهـ.

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أن كره العبد وخوفه ونفوره من هذه الخواطر والوساوس الشيطانية، علامة على صحة الاعتقاد وقوة الإيمان.

فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.

قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ. وراجع في ذلك الفتويين: 7950 ، 12300.

ولذلك نلفت نظر السائل إلى خطأ اعتقاده أنه قد كفر، وكذلك ما يترتب عليه من الاغتسال للدخول في الإسلام. وقد سبق لنا التنبيه على سبل التخلص من الوسوسة وعلاجها في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 3086، 60628، 78372، 48325، 51601، 133954.

وأما قول السائل عن الله تعالى: (لماذا لم يساعدني ويخلصني مما أنا فيه). وقوله: (لماذا لم يعصمني وتركني ووساوسي .. ) ؟؟!! فحقيقة هذا السؤال إنما هو تمني زوال التكليف ولو جزئيا، أو الخروج عن حكمة خلق الإنسان، وذلك أن الله تعالى إنما خلقنا امتحانا واختبارا، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {الملك: 2} وقال سبحانه: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:3،2} وقال عز وجل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران: 179}

وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء: 35}

ووعود الله تعالى للمؤمنين بالحياة الطيبة وإجابة الدعاء وحسن العاقبة لابد أن تتحقق ولكن بطريقة تتفق مع هذه الحكمة العظيمة، وقد سبق لنا بيان ذلك مفصلا في الفتوى رقم: 117638.

ومن ناحية أخرى، فينبغي للأخ السائل إذا تفكر في ما يعانيه، أن يعلم أن البأس الذي يلاقيه، فيه كفارة لماضيه، وهذا لا شك أنفع له مما يبتغيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه. وراجع في هذا المعنى الفتوى رقم: 131252.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني