الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته

السؤال

لقد تفضلتم مشكورين بنقل كلام شيخ الاسلام ابن تيمية في الفتوى رقـم: 129945، بعنوان: الدعاء الوارد في قضاء الحاجة هل هو مشروع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هو خاص بحياته صلى الله عليه وسلم؟.
وهل المذاهب الأربعة متفقة على هذا الكلام؟ أم أنه يوجد من يجيز الدعاء به بعد النبى صلى الله عليه وسلم؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فخلاف الناس في مسألة التوسل معروف مشهور، وقد كثر الكلام فيها بين مثبت وناف، وادعى السبكي الشافعي أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز إجماعا، وأنه لم ينكره أحد من السلف ولا من الخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكره، ونقض هذا الدعوى شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة أبلغ نقد، وذكر من أقوال الأئمة ونصوصهم ما يؤيد مذهبه في المنع فانظره، فإنه نافع جدا وحاصل مذاهب العلماء في التوسل بذاته وحقه وجاهه صلى الله عليه وسلم ثلاثة:

فالمنع مطلقا هو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ونقله عن أبي حنيفة وأصحابه، قال في القاعدة الجليلة ما عبارته: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ـ لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره ـ ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة ـ كما سنذكر ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز ونهوا عنه، حيث قالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك. انتهى.

وهذا المذهب هو الراجح لموافقته الأدلة، ولما فيه من الاحتياط لجناب التوحيد وسد باب الغلو.

والمذهب الثاني: جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم خاصة، وهو قول أبي محمد عز الدين ابن عبد السلام. والقول الثالث: جواز ذلك في حقه وحق غيره صلى الله عليه وسلم مع اعتقاد أن النافع الضار هو الله تعالى وهو اختيار الشوكاني في تحفة الذاكرين.

وقد بين العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي المذاهب في المسألة ورجح ما نراه راجحا: فقال ـ رحمه الله ـ تنبيه: قال الشيخ عبد الغني في إنجاح الحاجة: ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته: والحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته، وأما بعد مماته، فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فذكر الحديث، قال: وقد كتب شيخنا المذكور رسالة مستقلة فيها التفصيل، من أراد فليرجع إليها.

وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. انتهى.

وقال فيها في شرح قول صاحب العمدة: ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين ـ ما لفظه: ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقال في رسالته: الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد: وأما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه: فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ إن صح الحديث فيه ـ وعندي ـ أي الشوكاني ـ أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام قلت: أي المباركفوري ـ الحق عندي: أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز، وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم ـ أيضا ـ جائز.

وأما التوسل به بعد مماته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم: فلا يجوز، واختاره الإمام ابن تيمية في رسالته: التوسل والوسيلة ـ وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد فيه، فعليك أن تراجعها، ومن جملة كلامه فيها: وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي داعيا له ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور ـ لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنا حتى يخصب الناس ـ ثم لما استسقى بالناس ـ قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.

وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة لم ينكره أحد مع شهرته وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند لله، فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته، وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بذاته وقال له في الدعاء: قل اللهم فشفعه في، وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع، بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المخالف لعمر محجوجا بسنة رسول الله وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني