الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل العامل والناوي سواء في مضاعفة الثواب

السؤال

ما قولكم في رجلين؛ أحدهما يسكن مكة أمام الحرم يصلي فيه دائما، ويعتمر ويحج دائما. ورجل آخر يسكن المغرب، حزين مشتاق إلى الحرم الشريف، يقول يا ليتني كنت أسكن مكة أمام الحرم يتمنى ذلك صادقا من قلبه ويقول: لو كنت أسكن أمام الحرم لكنت أصلي فيه دائما، وأحج وأعتمر فيه دائما كثيرا ما دمت حيا، وهو حزين جدا، وأحيانا يبكي لذلك، وهو يدعو الله تعالى دائما أن يرزقه السكنى أمام الحرم حتى يحج فيه ويعتمر ويصلي فيه دائما أبدا، وهو يسأل الله تعالى ذلك صادقا من قلبه. هل هذان الرجلان في الأجر سواء؟ أم أن أحدهما أعظم أجرا من الآخر. اشرحوا لي وأفيدوني؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد دلت النصوص على أن المرء يدرك بنيته الصادقة أجر العامل وإن فاته العمل، فإذا صدقت النية من العبد، وعلم الله من قلبه صدق الرغبة في تحصيل هذا العمل، وأنه كان فاعلا له لو أمكنه ذلك بلغه مراتب العاملين وأناله أجورهم، فقد روى أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح وابن ماجه من حديث أبي كبشة الأنماري أنه صلى الله عليه وسلم - قال : إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ : عبدٍ رَزَقَهُ الله مالاً وعلماً ، فهو يتَّقي فيه ربَّه ، ويَصِلُ به رَحِمَه ، ويعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبدٍ رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادِقُ النِّيَّة ، يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعمِلْتُ بعملِ فلانٍ ، فهو بنيتِه ، فأجرُهُما سواءٌ ، وعبدٍ رزقه الله مالاً ، ولم يرزُقه علماً يَخبِطُ في ماله بغير علمٍ ، لا يتَّقي فيه ربّه ، ولا يَصِلُ فيه رحِمهُ ، ولا يعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأخبثِ المنازل ، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً ، فهو يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعَمِلتُ فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوِزْرُهما سواءٌ.

وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر.

وقد قال أبو الدرداء : من أتى فراشه، وهو ينوي أن يُصلِّي مِن اللَّيل، فغلبته عيناه حتّى يصبحَ ، كتب له ما نوى. أخرجه النسائي موقوفا وروي مرفوعا، والمحفوظ الموقوف كما قال الدارقطني رحمه الله.

وروي عن سعيد بن المسيب قال : من همَّ بصلاةٍ ، أو صيام ، أو حجٍّ ، أو عمرة ، أو غزو ، فحِيلَ بينه وبينَ ذلك بلَّغه الله تعالى ما نوى.

وقال أبو عِمران الجونيُّ : يُنادى المَلَكُ : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقولُ : يا ربِّ ، إنَّه لم يعملْهُ ، فيقول : إنَّه نواه. ذكرهما في جامع العلوم والحكم.

والآثار في هذا المعنى كثيرة، فليبشر من نوى الخير وحرص عليه بأنه يثاب بنيته ثوابا عظيما ويؤجر أجرا جسيما، فمن فاته شرف العمل فلا يفوته تحصيل ثوابه بالنية، ولكن من منَّ الله تعالى عليه ووفقه للعمل يحصل له من مضاعفة الثواب ما لا يحصل للناوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد حمل قوله: (( فهما في الأجر سواءٌ )) على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : { فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ } . قال ابن عباس وغيره : القاعدون المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجة همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار. انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ودليله: أن فقراء الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله سبقنا أهل الدثور بالأجور والنعيم المقيم - يعني أن أهل الأموال سبقوهم بالصدقة والعتق - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم فقال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ففعلوا فعلم الأغنياء بذلك ففعلوا مثلما فعلوا .

فجاء الفقراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولم يقل لهم إنكم قد أدركتم أجر عملهم لكن لاشك أن لهم أجر نية العمل.

ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فيمن آتاه الله مالاً فجعل ينفقه في سبل الخير وكان رجل فقير يقول لو أن لي مالا فلان لعملت فيه عمل فلان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فهو بنيته فهما في الأجر سواء .

أي: سواء في أجر النية أما العمل فإنه لا يكتب له أجره إلا إن كان من عادته أن يعمله. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني