الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.. رؤية شرعية

السؤال

ما قولكم في القول الذي يقول بأن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية؟ وما صحة هذا الكلام من الشرع؟ وهل دستور الدولة الإسلامية مدني أم إسلامي بحت؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فبداية لا بد من التنبيه على ضرورة تحرير معاني الألفاظ في هذه المسائل الكبار، التي تذاع على أسماع الناس وتلفت أنظارهم صباح مساء، حتى وهم في قعر بيوتهم من خلال وسائل الإعلام، وإذا لم تضبط مثل هذه الألفاظ فلا شك أنه يترتب على ذلك خلل عظيم في الموازين وخلط شديد في المفاهيم، فلا يصلح في ذلك الإجمال والتعميم، ويتأكد هذا مع المصطلحات التي تحمل شوبا من الصواب، وشيئا من الخير، مع فساد أصلها وسوء منشئها ومنبتها، ولا شك أن من وظيفية العقلاء والحكماء في مثل هذه الأحوال أن يبتعدوا عن الإجمال ويستبدلوا بألفاظه ألفاظا صحيحة ليس فيها احتمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل لفظ يحتمل حقا وباطلا فلا يطلق إلا مبينا به المراد الحق دون الباطل، فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه. اهـ.

ومصطلح الدولة المدنية مصطلح غربي معاصر أدى إلى وجوده هذا الفصام النكد بين واقعهم الديني إبَّان حكم الكنيسة، وبين أبسط مبادئ العيش الكريم الذي تتوفر له معالم الإنسانية، فهربوا من ظلم الحكم البابوي المستبد إلى التحرر بواسطة ما يعرف بالدولة المدنية التي تستمد سلطتها من الشعب ويفصل فيها الدين عن الدولة، ومن البدهي أن يُقبل، بل يُفضَّل هذا النموذج في مثل هذه الحال، ومن الظلم والخطأ البيَّن أن نجترَّ هذا النموذج مع الحكم الإسلامي الذي لا يعطي للولاة مكانة الحكم باسم الإله، ولا يجعل حكمهم تعبيرا عن إرادة الرب، ولا يرفع قدرهم فوق مستوى بشر، فلا يخطئون ولا يراجَعون!!! فنظام الحكم في الإسلام يقوم على مبادئ العدل والشورى ومناصحة الولاة، وعدم طاعتهم في معصية الله، بل يُؤمرون بالمعروف ويُنهون عن المنكر، حتى لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله. رواه الحاكم وصححه والخطيب، وصححه الألباني.

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر. رواه النسائي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.

فهل من الصواب والعدل أن نسوي بين هذا النظام الإسلامي وبين النظام الديني عند الغرب المعروف بالثيوقراطية، أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي بما يضفي على الحكام صفة العصمة والقداسة !!

قال الدكتور عبد الله الصبيح في مقال له بعنوان: الدولة في الإسلام بين التبعية واستقلال التصور: المفاهيم سواء في الإسلام، أو في غيره من الأديان والحضارات إنما ترجع إلى إطار معرفي أوـ paradigm ـ في الدين الذي تنتمي إليه، والتلفيق بين المفاهيم المأخوذة من أطر معرفية مختلفة ومتناقضة ينتج عنه لبس في المفهوم الملفق وجور على الإطار المعرفي نفسه، مثلا الدولة في الحضارة الغربية يمكن أن توصف بأنها مدنية ـ civil state ـ أو دينية ـ theocratic state ـ وهذا الوصف له أصوله الفلسفية، وله خلفيته التاريخية الخاصة بالحضارة التي نشأت فيها المصطلحات، الدولة المدنية في التصور الغربي هي نقيض الدولة الدينية، وكلاهما يعكسان إشكالية كان يعيشها المجتمع الغربي في فترة مضت، ولا علاقة للمفهومين بالنظام السياسي في الإسلام البتة، الدولة الدينية في الحضارة الغربية تعني تحديدا سلطة الكنيسة وأن الحاكم إنما يعبر عن إرادة الله عز وجل ولا يحق لأحد مراجعته وعلى الشعب التسليم بما يصدر عنه من قرارات، وهي بهذا تستبعد سلطة الشعب في محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه، والدولة المدنية نقيض ذلك تماما فهي تؤكد سلطة الشعب، أو سلطة الإنسان، وترفض أي سلطة خارج ذلك بما في ذلك سلطة الدين، أو الكنيسة، ووصف الدولة في الإسلام بأنها دولة مدنية، أو دينية ـ ثيوقراطية ـ هو في الحقيقة وصف لها بغير ما هي به، إنها مع وجود مرجعيتها الدينية توجب على الشعب محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه، وتعد ذلك من النصيحة الواجبة على المسلم لحاكمه، والمرجعية الدينية في الدولة الإسلامية نختلف عن المرجعية الدينية في المفهوم الغربي، المرجعية الدينية في الدولة الإسلامية تعني مرجعية القرآن والسنة، وهما ميسران لكل أحد، وبهذا يحق لكل فرد أن يراجع المفتي، أو يراجع الحاكم، ويطالبه بمستنده الشرعي ويراجعه فيه، وهي بهذا مرجعية موضوعية ـ objective ـ ميسرة لكل أحد، وهذا يختلف عن مفهوم المرجعية الدينية في الحكومة الدينية في الحضارة الغربية، ذلك أنها قائمة على الإلهام ـ inspiration ـ وما يقذفه الله في قلب البابا، أو الحاكم، فهي مرجعية شخصية ـsubjective ـ ترتبط بشخص الحاكم، وهذا النوع من المعرفة يعد في الإسلام هرطقة وضلالا، ولا يمكن أن يكون معرفة دينية منسوبة لله عز وجل، ومن يصف الدولة في الإسلام بأنها دولة دينية مشبها لها بالدولة الدينية التي نشأت في أوروبا يقع في الحقيقة في خطأ عظيم، فهو مع افتراض حسن نيته يسيء إلى مفهوم الدولة في الإسلام بعرضه على غير حقيقته وتلبيسه بسواه، والدولة الدينية في أوروبا دولة سيئة السمعة ارتبطت في تاريخها بالاستبداد والتسلط وظلم الناس، بينما الدولة في الإسلام بخلاف ذلك، هي دولة يأمن فيها الخائف وينتصف فيها المظلوم ويقام فيها العدل، ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ لا يقل عن الخطأ الأول، ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقا مختصا بالناس وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية ويسمى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت، وكل حكم سوى حكم الله هو طاغوت، إن تحرير المصطلحات ومراعاة مرجعياتها المعرفية ضرورة يقتضيها استقلال المرجعيات المعرفية عن بعضها البعض، وربما اشتبهت الدولة المدنية في ذهن البعض بالمجتمع المدني، فظن أنه يصح استخدام مصطلح الدولة المدنية في وصف الدولة الإسلامية، وفي الحقيقة بينهما فرق جوهري، الدولة المدنية - كما قلت - إنما نشأت في مقابل الدولة الدينية، أما المجتمع المدني فنشأ في مقابل المجتمع الذي تديره الحكومة الشمولية من خلال مؤسساتها، فهو مجتمع ينشئه المواطنون، أو الأهالي ويرعى قطاعات لا ترعاها الحكومة، كروابط المدرسين ونقابات العمال وأصحاب المهن والمؤسسات الخيرية، هذا المجتمع يرعاه الأهالي، وينفق عليه الأهالي ويديره الأهالي، وليس للحكومة علاقة به سوى علاقة الإشراف العام المتمثلة في وضع النظم واللوائح ومراقبة تنفيذها، والمجتمع المدني هو أقرب المجتمعات إلى المجتمع في العصر النبوي والخلافة الراشدة، فالحكومة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الخلافة الراشدة لم تكن شمولية تسيطر على كل جزئية في المجتمع، وإنما تركت الكثير من شؤون الناس لهم ليديروها حسبما يرون وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، بل إن التاريخ الإسلامي لم يكن يعرف الدولة الشمولية هذه التي نشأت في أوروبا، وكان الكثير من شئون الناس ومصالحهم يديرونها هم من غير تدخل من الحكومة، وعلى هذا فالمجتمع المدني هو أحد الخيارات المتاحة أمام المجتمع ولا غضاضة في الأخذ به، وصفة المدنية لا تعني إلغاء حاكمية الشريعة، كما هو الشأن في الدولة المدنية، وإنما تعني طريقة المجتمع في إدارة شؤونه من غير تدخل من الحكومة. اهـ.

وهناك حقائق لا بد من الوقوف عليها لمعرفة المحاذير، بل التناقض في مصطلح: دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية ـ فهذا التعبير قريب من قولنا: دولة علمانية أو دولة ديمقراطية ذات مرجعة إسلامية !! وهما في الحقيقة منهجان متضادان، لا يمكن أن يجتمعا، فالمدينة والديمقراطية وجهان لعملة واحدة، والشعب فيهما هو مصدر السلطات والغاية قاصرة على حدود الحياة الدنيا، وأما الإسلام فالحاكمية فيه للشريعة، للقرآن والسنة، والمصالح المرعية فيه هي مجموع مصالح الدنيا والآخرة معا، فتباينَ المنهجان من حيث المبدأ والغاية، ولذلك فرَّق ابن خلدون في مقدمته بينهما فجعل الأول مُلكاً، وجعل الثاني خلافة فقال: الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد. اهـ.

والحقيقة أن من يستعمل هذا القيد يؤول في واقع حاله إلى أحد أمرين:

فإما أن يصير إلى العلمانية ويغلب الجانب المدني، وتكون المرجعية الإسلامية عنده قاصرة على بعض الجوانب دون بعض، كالأحوال الشخصية ونحو ذلك من الجوانب الخاصة، فإنه لا مانع عند العلمانيين من التدين الشخصي، أما انصباغ الدولة ككل بالدين فهذا عندهم محظور !! وإما أن يغلب هذا القيد ويجعله الأصل والأساس، وبذلك تكون الدولة عنده إسلامية في حقيقتها، ولا داعي عندئذ لوصف الدولة بالمدنية، لأن الإسلام لا يحول بين المسلمين وبين الاستفادة من النظم الحديثة التي تصب في مصبه ولا تتعارض معه، وقد سبق أن نبهنا على الفرق بين الحكم الوضعي الإداري والحكم الوضعي التشريعي، فراجع الفتوى رقم: 135968.

وهنا ننبه على أن قيد المرجعية الإسلامية للدولة المدنية لا يرضى به العلمانيون ومن نحا نحوهم، لأنهم يدركون أن هذا القيد يخرج الدولة المدنية عن حقيقتها الغربية التي تفصل الدين عن الدولة، وفي المقابل لا يرضى الرافعون للواء الشريعة بوصف الدولة المدنية ابتداءً، لما يحمله ذلك من غمص للدولة الإسلامية، واتهامها بالحكم الثيوقراطي ونحوه مما هي بريئة منه من جهة، ومن جهة أخرى لما في ذلك من إقرار لمبدأ إضفاء حق الحاكمية على الشعوب، وهي حق خالص لله تعالى، وهذا سبيل كل من يسعى لأنصاف الحلول، ويريد التوسط بين الحق والباطل، فهو لا يردُّ الباطل كله، ولا يتمسك بالحق كله، ولا يخفى أن ذلك لا يجمع الأمة على كلمة سواء.

وننبه أيضا على أنه من الضرورة في مثل هذه الأيام أن نوضح للناس أن كل ما في الدولة المدنية بالمعيار الغربي من مزايا ومنافع حقيقية يوجد مثله، أو أفضل منه في ظل الحكم الإسلامي، الذي يمثل قمة العدالة والأمانة وإعطاء كل ذي حق حقه، والذي يُحرِّم ويُجرِّم الظلم والفساد بكافة صوره وأنواعه، ويجعل محاربته وإنكاره نوعا من أنواع الجهاد.

وينبغي أيضا أن نحرص على رد شبهات المستغربين وأهل الأهواء الذين يتهمون الشريعة ويلصقون بها ما هي بريئة منه، وذلك بيان سمات الشريعة الإسلامية وخصائصها وكمالها ومراعاتها لأحوال المكلفين بما فيها من مرونة وسعة، وقواعد وكليات يمكن من خلالها لأهل العلم استنباط حكم كل نازلة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 152085.

فمبنى الشريعة على جلب المصالح، ودرء المفاسد، وتحقيق العدالة وأداء الأمانة، قال العلامة ابن القيم في الطرق الحكمية: الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثمَّ شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له، فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات. اهـ.

ومن هنا يمكن للسائل الكريم أن يعرف جواب سؤاله عن دستور الدولة الإسلامية، وهل هو إسلامي بحت؟ فهذا هو الصواب، ولكن ليس معناه أن كل ما تحتاجه الأمة في كافة العصور والأحوال يجدونه منصوصا عليه في شريعتهم، بل معناه أنهم يجدون له فيها أصلا يمكنهم أن يستنبطوا حكمه منه.

وعلى أية حال، فموضوع السؤال أكبر من هذه الإلماحة، وأعظم من أن تفي به هذه الإطلالة، فنرجو من السائل أن لا يكتفي بذلك، بل ينبغي أن يتابع ويقرأ ولو المقالات المختصرة التي تناولته، كالمقال الذي كتبه الأستاذ محمد بن شاكر الشريف بعنوان: الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية .

وهناك مصطلحات لا بد من المرور عليها لإدراك حقيقة الدولة المدنية وهما: العلمانية والليبرالية، وكل منهما قد تناوله مجموعة من الباحثين في مؤلفات خاصة، فيحسن الرجوع إليها، وراجع للفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 42744، 51488، 9244، 5490.

وراجع في مفهوم الدولة المدنية في الفتوى رقم: 77538.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني